شريط الأخبار

مُمَارَسَةُ النَّقْدِ بَيْنَ الإِيجَابِ وَالسَّلْبِ

د. عبد رب النبي فتحي أبو سلطان - خطيب بوَزارة الأوقاف منذ 0 ثانية 2768

مُصْطَلَحُ «النَّقْدِ البَنَّاءِ» قَدْ يَكُونُ مُهَذَّبًا وَإِيجَابِيَّاً فِي ظَاهِرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَحْمِي الصَّالِحَ العَامَّ، لَكِنَّهُ مُخَادِعٌ فِي حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعِيَّاً أَوْ غَيْرَ مَوْضُوعِيٍّ، وَالمَوْضُوعِيُّ هُوَ الذِي يَتَخَيَّرُ المِنْبَرَ المُنَاسِبَ وَيَعْتَمِدُ عَلَى مَعْلُومَاتٍ صَحِيحَةٍ مَعْرُوضَةٍ بِصُورَةٍ تَخْلُو مِنَ الإِثَارَةِ وَالتَّحْرِيضِ، أَمَّا النَّقْدُ غَيْرُ المَوْضُوعِيُّ فَهُوَ الذِي يَنْبَنِي عَلَى مَعْلُومَاتٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ أَوْ يَتَوَصَّلُ إِلَى نَتَائِجَ مَقْطُوعَةِ الصِّلَةِ بِالْمَعْلُومَاتِ الصَّحِيحَةِ، أَوْ أَنَّهُ ذَلِكَ الذِي يَتْرُكُ المَوْضُوعَ حَتَّى يَطْعَنَ فِي الشَّخْصِ وَيَجْرَحَهُ.

فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ مَجْبُولِينَ عَلَى الخَطَأِ وَالنَّقْصِ، وَهَذَا مِنْ طَبِيعَةِ البَشَرِ، كَانَ الوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنَاصِحَ وَيُقَوِّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمِنْ مُسَمَّيَاتِ النَّصِيحَةِ، وَأَنْوَاعِهَا: النَّقْدُ، فَالنَّقْدُ البَنَّاءُ مِنَ النَّصِيحَةِ الوَاجِبَةِ أَوْ الحَسَنَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَتَضَايَقَ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ النَّقْدُ مُنْتَشِراً فِيمَا بَيْنَنا، وَنَسْتَعْمِلُهُ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، كَانَ لِزَاماً عَلَيْنا أَنْ نَقِفَ مَعَهُ، وَنعْرِفَ آدَابَهُ وَضَوَابِطَهُ، لَا سِيَّما أَنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ أَخْطَأَ فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَأَجْحَفَ فِي نَقْدِهِ.

وَالنَّقْدُ يَأْتِي لِمَعَانٍ، مِنْها: التَّمْيِيزُ وَالإِظْهَارُ، يُقَالُ: نَقَدَ الشَّيْءَ: أَيْ بَيَّنَ حَسَنَهُ وَرَدِيئَهُ، وَأَظْهَرَ عُيُوبَهُ وَمَحَاسِنَهُ، وَنَقَدَ النَّاسَ: أَيْ أَظْهَرَ مَا بِهِمْ مِنْ عُيُوبٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَنْقُدَ أَحَدًا عَلَى أَيِّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، إِلَّا إِذَا خَالَفَ دَلِيلاً شَرْعِيًّا صَحِيحًا، أَوْ خَالَفَ عُرْفاً أَوْ خُلُقاً اتَّفَقَ العُقَلَاءُ عَلَيْهِ، أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نُحَاكِمَ النَّاسَ عَلَى حَسْبِ أَذْوَاقِنا وَعَادَاتِنا؛ فَالأَذْوَاقُ وَالعَادَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، فَالنَّقْدُ فِي الأَصْلِ بَغِيضٌ إِلَى النُّفُوسِ، ثَقِيلٌ يَشُقُّ سَمَاعُهُ وَقَبُولُهُ، فَإِذَا نَقَدَّتَ أَحَداً دُونَ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ لِنَقْدِكَ، أَوْ نَقَدَّتَهُ بِأُسْلُوبٍ جَافٍّ أَوْ أَمَامَ الآخَرِينَ، أَوْ أَكْثَرْتَ مِنْ نَقْدِهِ، فَسَيَزْدَادُ ثِقَلُهُ، وَيَصْعُبُ تَحَمُّلُهُ.

فَإِذَا تَحَقَّقَ الإِنْسَانُ بِأَنَّ فُلَاناً مِنَ النَّاسِ ارْتَكَبَ أَمْراً خَطَأً صَرِيحاً، مُخَالِفاً بِذَلِكَ أَمْراً شَرْعِيًّا، أَوْ أَمْراً اتَّفَقَ العُقَلَاءُ عَلَى ذَمِّهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُدَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْتَزِمَ بِآدَابِ النَّقْدِ البَنَّاءِ، وَهِيَ:

أَوَّلاً: الرِّفْقُ وَالحِلْمُ، وَقَدْ ذَكَرَ العُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى-، أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ -وَالنَّقْدُ مِنْ هَذَا البَابِ- لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ، رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ، حَلِيمًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ قَبْلَ النَّقْدِ، وَالرِّفْقِ مَعَ النَّقْدِ، وَالحِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» [صححه الألباني].

ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ النَّقْدُ فِي سِرِّيةٍ تَامَّةٍ، إِمَّا بِانْفِرَادٍ، أَوْ عِنْدَ صُحْبَةٍ مُتَآلِفةٍ مُتَحَابَّة.

ثَالِثًا: أَنْ تُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ نَقْدِكَ كَلَاماً جَمِيلاً، وَثَنَاءً صَحِيحاً، فَقُدْوَتُنا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَمَا أَرَادَ تَوْجِيهَ نَقْدٍ لِابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً عَطِرَاً قَبْلَ نَقْدِهِ، فَقَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ« [متفق عليه].

رَابِعًا: أَنْ يَكُونَ خِتَامُ النَّقْدِ بِطَرِيقَةٍ وُدِّيَّةٍ، وجُمْلَةٍ وَعِبَارَةٍ مُحَفِّزَةٍ؛ فَهَذَا يُعِينُ عَلَى تَقَبُّلِهَا، وَتَطْيِيبِ خَاطِرِ صَاحِبِهَا.

خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ النَّقْدُ لِلْتَّصَرُّفِ الذِي قَامَ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ، لَا أَنْ يَكُونَ لِلْشَّخْصِ نَفْسِه.

سَادِسًا: أَنْ يَكُونَ النَّقْدُ فِي وَقْتٍ وَجَوٍّ مُنَاسِبَيْنِ، فَبَعْضُ النَّاسِ لَا يُرَاعِي الوَقْتَ وَالجَوَّ المُنَاسِبَيْنِ فِي نَقْدِهِ، فَيُوقِعَ فِي نَفْسِ مَنْ نَقَدَهُ الحَرَجَ وَالأَلَمَ.

سَابِعًا: التَّوَازُنُ بَيْنَ الثَّنَاءِ وَالنَّقْدِ، فَلَا يُعْقَلُ أَنْ تُكْثِرَ مِنْ نَقْدِ أَحَدٍ مَهْمَا كَانَ، دُونَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْكَ ثَنَاءً عَطِرًا، أَوْ مَدْحاً صَادِقاً.

ثَامِنًا: عَدَمُ الإِكْثَارِ مِنَ النَّقْدِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالإِكْثَارُ مِنْهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى عَدَاوَةٍ أَوْ سَآمَةٍ.

تَاسِعًا: لُزُومُ الحُسْنَى فِي المَقَالِ، وَانْتِقَاءُ اللَّفْظِ، وَتَخَيُّرُ الكَلِمَاتِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإِسْراء:53]، بَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83]، فَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاقِدِ أَنْ يَنْتَقِيَ أَحْسَنَ الأَلْفَاظِ وَالعِبَارَاتِ، وَيَبْتَعِدَ عَنِ الأَسَالِيبِ التِي تُثِيرُ وَتُؤْلِمُ، وَتُفْسِدُ وَلَا تُصْلِحُ.

مقالات مشابهة

مُمَارَسَةُ النَّقْدِ بَيْنَ الإِيجَابِ وَالسَّلْبِ

منذ 0 ثانية

د. عبد رب النبي فتحي أبو سلطان - خطيب بوَزارة الأوقاف

عِلْمُ النَّفْسِ النَّحْوِيُّ!

منذ 1دقيقة

أ‌. محمد علي عوض - خطيبٌ بِوَزَارَةِ الأَوْقَافِ

لَا تَكُنْ سَرِيعَ الغَضَبِ؛ فَتَصِيرَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ

منذ 3 دقيقة

أ. وفا محمود عياد - خطيب بوَزارة الأوقاف

أَزْمَةُ الفَهْمِ وعَلاقَتُها بِالْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ

منذ 4 دقيقة

د. يوسف علي فرحات - خطيبٌ بوَزارةِ الأوْقاف

الوسائط

هدفنا الارتقاء بأداء العاملين في إدارة المساجد وتطوير الأنشطة المسجديةإقرء المزيد عنا

كُن على تواصل !!

آخر الأخبار

مُمَارَسَةُ النَّقْدِ بَيْنَ الإِيجَابِ وَالسَّلْبِ

منذ 0 ثانية2768
عِلْمُ النَّفْسِ النَّحْوِيُّ!

منذ 1دقيقة2555
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضوابطه الشرعية

منذ 2 دقيقة3584
Masjedna © Copyright 2019, All Rights Reserved Design and development by: Ibraheem Abd ElHadi