مُشْكِلَةُ التَّوْصِيفِ:
أَظْهَرَتْ لَنَا مُتَابَعَةُ أَحْدَاثِ هَذِهِ الأَيَّامِ كَمْ يَفْتِنُ المَرْءُ نَفْسَهُ عِنْدَمَا يُسْلِمُ زِمَامَ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ، بِعَقْلٍ يُحَرِّكُهُ الغَيْرُ وَعَيْنَيْنِ مُغْلَقَتَيْنِ، فَيَبْدُو كَأَّنَهُ المَيْتُ بَيْنَ يَدَيْ مُغَسِّلِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَجَاوَزُ بَدَهِيَّاتِ الفِطْرَةِ وَحَقَائِقَ التِّلْقَائِيَّةِ وَظَوَاهِرَ العَقْلِ وَإِجْمَاعَ القُلُوبِ لِصَالِحِ أَمْرٍ اسْتَفْتَى فِيهِ قَلْبَهُ فَوَجَدَهُ مِنْهُ بَعِيدًا بُعْدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقَيْنِ، فَبِئْسَ الأَمْرُ هُوَ!
وَبِاعْتِقَادِي فَإِنَّ المُشْكِلَةَ لَيْسَتْ فِي العُلَمَاءِ بِقَدْرِ مَا هِيَ فِي تَوْصِيفِ العَالِمِ الصَّحِيحِ وَفَهْمِ النَّاسِ لِحُدُودِ العَالِمِ؛ فَهُمْ إِجْمَالاً وَلَا شُعُورِيًّا عِنْدَمَا يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ "العَالِمِ" يَسْتَحْضِرُونَ مَالِكًا وَأَحْمَدَ وَابْنَ تَيْمِيَّةَ وَالعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ، وَقَائِمَةً فِيهَا "العَالِمُ السُّوبَرُ"، وَلَيْسَ أَيَّ شَيْءٍ آخَرَ، حَتَّى إِنَّكَ لَتَجِدُ الشِّيزُوفِرَانيا الفِكْرِيَّةَ وَاقِعًا مَلْمُوسَاً وَهُمْ يُخَاطِبُونَ العَالِمَ الفُلَانِيَّ بِاسْمِهِ وَلَا يَبْدُو لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا مُسْمَّى العَالِمِ المَيْتِ الذِي هُوَ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ التَّقْدِيرِ وَالإِجْلَالِ.!
الدِّيكتاتُورُ وَمَشْيَخَةُ الدِّيكُورِ:
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّصَوُّرَ تَجِدُهُمْ يَسْحَبُونَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُسَمُّونَهُ أَوْ يَسْمَعُونَ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ "عَالِمٌ"، يَقُولُونَ هَذَا عَنْ شَيْخِ حَارَتِهِمْ وَخَطِيبِ مَسْجِدِهِمْ وَشُيُوخِ الفَضَائِيَّاتِ وَالمُعَمَّمِينَ المُجَلْبَبِينَ أَوِ المُتَخَرِّجِينَ فِي الكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا جَعَلَ الدِّيكْتَاتُورِيَّاتِ التِي تَحْكُمُ بِلَادَ العَرَبِ وَالمُسْلِمِينَ بِنِسَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ تَسْتَغِلُّ وَاجِهَاتٍ عُلَمَائِيَّةٍ تُغْدِقُ عَلَيْهَا أَمْوَالًا وَمُمَيِّزَاتِ رَفَاهٍ مَعِيشِيٍّ جَعَلَهَا فِي الجُمْلَةِ مُنْفَصِلَةً عَنِ الوَاقِعِ المَعِيشِ لِلْنَّاسِ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ مَا يَصِلُهَا مِنَ الحَاكِمِ وَلَا تَبْحَثُ عَنْ صِدْقِيَّتِهِ ولَا تُنَقِّرُ عَنْ أَدِلَّتِهِ الحَقِيقِيَّةِ، حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ أَشْبَهَ بِالْمُوَقِّعِ عَلَى مَا يَصِلُهُ مِنَ الحَاكِمِ مَهْمَا كَانَ تَبْرِيرًا لِسَقَطَاتِهِ السِّيَاسِيَّةِ وَانْحِرَافَاتِهِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَهَرْطَقَاتِه فِي الحُكْمِ، عَلَى أَسَاسِ أَنَّهُ وَلِيُّ الأَمْرِ الأَدْرَى بِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ، وَهُوَ مَا أَثْبَتَتْهُ حَالَةُ المُقَاطَعَةِ الخَلِيجِيَّةِ لِقَطَرَ مُؤَخَّرًا وَإِلْقَاءِ مُسُوحِ الدِّينِ عَلَيْهَا وَهِيَ مِنْهَا بَعِيدَةٌ، فَضْلاً عَنْ أَنَّ هَؤُلَاءِ "العُلَمَاءَ" لَمْ يُفْتُونَا فِي حُكْمِ المِلْيَارَاتِ التِي نُثِرَتْ تَحْتَ أَقْدَامِ "ترَمبْ"، وَلَمْ يُفْتُونا فِي تَقْصِيرِ الدُّوَلِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي نُصْرَةِ القُدْسِ وَرَفْعِ الحِصَارِ عَنْ غَزَّةَ، كَمَا لَمْ يُفْتُونَا فِي حُكْمِ وَصْمِ جَمْعِيَّاتٍ خَيْرِيَّةٍ وَشَخْصِيَّاتٍ عِلْمِيَّةٍ قَدِيرَةٍ بِـ"الإِرْهَابِ"، وَلَا يَزَالُونَ يُغَرِّدُونَ فِي سِرْبِ ظُلْمٍ وَظَلَامٍ؛ مَا يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ مِنْ وَاقِعِ مَا يَفْعَلُونَ!
نَفْيُ العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ عَنْ مَوَاطِنِ التَّأْثِيرِ:
أَمَّا العُلَمَاءُ الأَثْبَاتُ المُجَاهِدُونَ؛ فَمَنْفِيُّونَ عَنِ الأَضْوَاءِ، لَا تَسْتَضِيفُهُمُ الفَضَائِيَّاتُ وَلَا الإِذَاعَاتُ وَلَا الجَرَائِدُ الرَّسْمِيَّةُ، وَمَمْنُوعُونَ مِنْ أَمَاكِنِ التَّأْثِيرِ المُجْتَمَعِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ غَيَّبَتْهُ السُّجُونُ الظَّالِمَةُ أَوْ لَا يَزَالُ فِيهَا مُغَيَّبًا، نَاهِيكُمْ عَنْ حَمْلَةِ الشَّيْطَنَةِ وَالإِشَاعَاتِ التِي صَبَّتْ حُمَّاها وَنِيرَانَهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، ويُسَاعِدُها فِي ذَلِكَ بَبْغَاوَاتٌ عَجْمَاءُ أَوْ مُجَهَّلُونَ غَيْرُ أَسْوِيَاءَ، حَتَّى صَارَ عُلَمَاءُ السَّلْطَنَةِ وَآلَاتُهَا وَأَبْوَاقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ عِنْدَ الجَمَاهِيرِ هُمُ المِعْيَارَ لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالتَّوْجِيهِ، وَلَمْ يَعُدِ الحَقُّ غَالِبًا عَلَى الجَمِيعِ وَمُهَيْمِنًا عَلَى كُلِّ مَطْرُوحٍ، وَإِلَى اللهِ المُشْتَكَى.
وَلَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ مِثَالاً أَنَّ "مُطَرْبَشًا" يَتَبَاسَطُ مَعَ رَأْسِ الإِجْرَامِ بَشَّارٍ، وَيُفْتِيهِ بِمَا يَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُ، وَيُعَادِي مِنْ أَجْلِهِ كُلَّ دَمٍ نَازِفٍ، أَوْ عَرَقٍ فِي سَبِيلِ الرِّيِّ، وَكُلَّ نِدَاءِ حُرِّيَّةٍ وَحُقُوقٍ فِي حُدُودِهِمَا الدُّنْيَا، يَصْنَعُ كُلَّ ذَلِكَ وَهُوَ يَبْتَسِمُ، وَخُذْ طَيِّبًا لَيْسَ طَيِّبًا وَجُمُعَةً لِلْشَّرِّ فِي رَأْسِهِ وَلِسَانِهِ، تَجِدُهُمْ وَاجِهَاتِ بَلَدِهِمْ، مُتَلَاعِبِينَ بِالْعِبَادَةِ وَمُفْتِينَ بِالْمَزَاجِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَيُفَسِّرُونَ الآياتِ وَالسُّنَّةَ وَفْقَ مَا يَأْتِي عَلَى بَالِهِمُ الشَّنِيعِ وَفِكْرِهِمُ الفَظِيعِ، وَخُذْ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيحَةِ العَرِيضَةِ مَا شِئْتَ مِنْ سُوءٍ وَبَلَاوَى.!
وَاجِبُ الوَقْتِ:
وَهَذَا التَّوْصِيفُ يَقُودُنَا إِلَى تَسْلِيطِ الضَّوْءِ إِجْمَالاً عَلَى ضَرُورَةِ تَنْقِيَةِ فِقْهِنَا الإِسْلَامِيِّ بِجُرْأَةٍ وَسُرْعَةٍ مِنْ مُحَاوَلَاتِ البَعْضِ أَوْ رَغْبَتِهِمْ -رُبَّمَا- فِي المَرَاحِلِ التَّارِيخِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ لِأُمَّتِنَا أَنْ "يُؤَلِّهُوا" الحُكَّامَ المُسْلِمِينَ، وَيُوْصِلُوهُمْ لِدَرَجَةِ الذِينَ لَا يُنَازَعُونَ أَمْرًا وَلَا يُرَاجَعُونَ فِي قَرَارٍ، فَالإِمَامُ الغَشُومُ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ، وَالفُجُورُ الوَاضِحُ لَهُ يُبْقِيهِ عَلَى كُرْسِيِّهِ طَالَمَا كَانَ مُقِيمًا الصَّلَاةَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مُقَيِّدَاتُهُ بِحَذَرٍ إِلَّا أَنَّهُ جَرَّدَ المُجْتَمَعَ الإِسْلَامِيَّ مِنْ تَأْثِيرِ "أَهْلِ الحَلِّ وَالعَقْدِ "الذِينَ وَاجِبُهُمْ أَنْ يَقِفُوا حُمَاةً لِلْدِّينِ لَا الحَاكِمِ وَمُذَكِّرِينَ بِتَطْبِيقِهِ لَا مُبَرِّرِينَ لِسَقَطَاتِ وَلِيِّ أَمْرٍ حَتَّى وَإِنْ أَخَذَ النَّاسَ وَالإِسْلَامَ إِلَى جَهَنَّمِ الأَفْكَارِ وَقَاعِ الانْحِدَارِ.
هَؤُلَاءِ "العُلَمَاءُ" الذِينَ رَبَطُوا مَصِيرَهُمْ بِحَاكِمٍ ظَالِمٍ مَشْكُوكٌ فِيهِمْ أَصْلاً، وَهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الأَسْبَابِ التِي تُطِيلُ فِي أَعْمَارِ الظُّلْمِ، فَضْلاً عَنْ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ صَرِيحَ القُرْآنِ وَصَحِيحَ السُّنَّةِ اللَّذَيْنِ أَخَذَا عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِبَيَانِ الحَقِّ وَعَدَمِ كِتْمَانِهِ، وَأَلَّا يَكُونُوا كَبَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ: ﴿الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الأَعْرَاف:175]، بَلْ هُوَ سَبِيلٌ لِضَيَاعِ الفَلَاحِ الشَّخْصِيِّ وَالجَمْعِيِّ الذِي يَأْتِي نَتِيجَةً لِـلابْتِعَادِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ القُرْآنِيَّةِ: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104]، فَضْلاً عَنْ أَنَّهُ مُوْجِبٌ لِلَّعَائِنِ، قَالَ تَعَالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة:159].
لَقَدْ آنَ الأَوَانُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ مُؤَسَّسَةِ الإِفْتَاءِ وَالقَضَاءِ عَنِ المُؤَسَّسَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ، وَيَجِبُ أَنْ يُقَوَّى جَانِبُ المُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَالعَامَّةِ حَتَّى يَكُونَ الجَمِيعُ فِي مَنْأَى عَنْ الانْحِرَافَاتِ وَالْفِتَنِ التِي تَسْتَنْزِلُ عَذَابَ اللهِ عَلَى الجَمِيعِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ، اللَّهُمَّ السَّلَامَ وَالسَّلَامَةَ!