شريط الأخبار

الرُّجُولَةُ

د. يوسف علي فرحات - خطيبٌ بوَزارةِ الأوْقاف منذ 0 ثانية 2892

الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالاهُ، أمَّا بَعْدُ:

فَالرُّجُولَةُ وَصْفٌ اتَّفَقَ العُقَلاءُ عَلى مَدْحِهِ وَالثَّناءِ عَلَيْهِ، وَيَكْفِيكَ إنْ كُنْتَ مادِحًا أحَداً أنْ تَصِفَهُ بِالْرُّجُولَةِ، أوْ أنْ تَنْفِيَها عَنْهُ لِتَبْلُغَ الغايَةَ فِي الذَّمِّ، وَرَغْمَ اتِّفاقِ جَمِيعِ الخَلْقِ عَلى مَكانَةِ الرُّجُولَةِ، إلَّا أنَّ المَسافَةَ بَيْنَ واقِعِ النَّاسِ وَبَيْنَ الرُّجُولَةِ لَيْسَتْ مَسافَةً قَرِيبَةً، فَالْبَوْنُ بَيْنَ الواقِعِ والدَّعْوى شاسِعٌ، حَتَّى أصْبَحَت الرُّجُولَةُ فِي زَمانِنا عَزِيزَةً، بَلْ كَالعِمْلَةِ النَّادِرَةِ.

 وَلا نُرِيدُ بِالْرُّجُولَةِ هُنا النَّوْعَ المُقابِلَ لِلْأُنْثى، وَإنَّما نُرِيدُ بِها الوَصْفَ الذِي يَسْتَحِقُّ صاحِبُهُ المَدْحَ، فَالرُّجُولَةُ بِهَذا المَفْهُومِ تَعْنِي القُوَّةَ وَالمُرُوءَةَ وَالكَمالَ، بَلْ هِيَ بِإيْجازٍ كَما عَرَّفَها الدُّكْتُورُ القَرَضاوِيُّ: قُوَّةُ الخُلُقِ وَخُلُقُ القُوَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ بِذَلِكَ الوَصْفِ أشْرَفَ الخَلْقِ الأنبياءَ والمُرْسَلِينَ، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [النَّحْل:43]، فَهِيَ صِفَةٌ لِهَؤُلاءِ الكِبارِ الكِرامِ الذِيْنَ تَحَمَّلُوا أعْباءَ الرِّسالَةَ وَقادُوا الأُمَمَ إلى رَبِّها، والرُّجُولَةُ هِيَ صِفَةُ أهْلِ الوَفاءِ مَعَ اللهِ الذِيْنَ باعُوا نُفُوسَهُم لِرَبِّهم، قال تَعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحْزاب:23]، والرُّجُولَةُ صِفَةُ أهْلِ المَساجِدِ الذِيْنَ لَمْ تَشْغَلْهُمُ العَوارِضُ عَن الذِّكْرِ وَالآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور:37].

وَلَيْسَت الرُّجُولَةُ بِالْسِّنِّ المُتَقَدِّمَةِ، فَكَمْ مِنْ شَيْخٍ فِي سِنِّ السَّبْعِينَ وَقَلْبُهُ فِي سِنِّ السَّابِعَةِ، يَفْرَحُ بِالتَّافِهِ وَيَبْكِي عَلى الحَقِيرِ، وَبِالْمُقابِلِ كَمْ مِنْ غُلامٍ فِي مُقْتَـبَلِ العُمُرِ وَلَكِنَّكَ تَرَى الرُّجُولَةَ المُبَكِّرَةَ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَتَفْكِيرِهِ وَخُلُقِهِ، وَلَيْسَت الرُّجُولَةُ بِبَسْطَةِ الجِسْمِ وَطُولِ القامَةِ وَقُوَّةِ البِنْيَةِ، فَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «يُؤْتَى بِالْرَّجُلِ السَّمِينِ يَوْمَ القِيامَةِ فَلا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ» [متفق عليه].  

إنَّ الرُّجُولَةَ قُوَّةٌ نَفْسِيَّةٌ تَحْمِلُ صاحِبَها عَلى مَعالي الأُمُورِ، وَتُبْعِدُهُ عَنْ سَفاسِفِها، قُوَّةٌ تَجْعَلُهُ كَبِيراً فِي صِغَرِهِ وَغَنِيَّاً فِي فَقْرِهِ وَقَوِيّاً فِي ضَعْفِهِ، وَإنَّ خَيْرَ ما تَقُومُ بِهِ دَوْلَةٌ لِشَعْبِها، وَأَعْظَمَ ما يَقُومُ عَلَيْهِ مَنْهَجٌ تَعْلِيْمِيٌّ، وَأَفْضَلَ ما تَتَعاوَنُ عَلَيْهِ أَدَواتُ التَّوْجِيهِ كُلُّها مِنْ صَحافَةٍ وَإذاعَةٍ وَمَسْرَحٍ وَسِينِما وَمَسْجِدٍ وَمَدْرَسَةٍ.. هُوَ صِناعَةُ هَذِهِ الرُّجُولَةِ.

وَلَنْ تَتَرَعْرَعَ هذه الرُّجُولَةُ الفارِعَةُ، وَيَتَرَبَّى الرِّجَالُ الصَّالِحُونَ إلَّا فِي ظِلالِ القُرْآنِ وَالعَقائِدِ الرَّاسِخَةِ وَالفَضائِلِ الثَّابِتَةِ وَالمَعايِيرِ الأَصِيلَةِ، أمَّا فِي ظِلالِ الشَّكِّ المُحَطِّمِ وَالإِلْحادِ الكافِرِ وَالانْحِلالِ السَّافِرِ وَالحِرْمانِ القاتِلِ فَلَنْ تُوْجَدَ رُجُولَةٌ صَحِيحَةٌ، كَما لا يَنْمُو الغَرْسُ إذا حُرِمَ الماءَ وَالهَواءُ وَالضِّياءَ.

وَلَمْ تَرَ الدُّنْيا الرُّجُولَةَ فِي أجْلَى صُوَرِها وَأَكْمَلِ مَعانِيها مِثْلَما رَأَتْها فِي تِلْكَ النَّماذِجِ الكَرِيمَةِ التِي صَنَعَها الإسْلامُ عَلى يَدِ رَسُولِ اللهِ الأَعْظَمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هَؤُلَاءِ هُمُ الذِيْنَ كانُوا أُمْنِيَةَ عُمَرَ الفارُوقِ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقاتِهِ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا بِقَوْمٍ يَتَمَنَّوْنَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ سَكَتُوا، فَقَالَ لَهُمْ: "فِيمَا كُنْتُمْ؟"، قَالُوا: "كُنَّا نَتَمَنَّى"، قَالَ: "فَتَمَنَّوْا وَأَنَا أَتَمَنَّى مَعَكُمْ"، قَالُوا: "فَتَمَنَّ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ"، قَالَ: "أَتَمَنَّى رِجَالا مِلْءَ هَذَا الْبَيْتِ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، إِنَّ سَالِمًا كَانَ شَدِيدًا فِي ذَاتِ اللهِ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ مَا أَطَاعَهُ، وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ؛ فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّـى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ»" [رواه أحمد].  

رَحِمَ اللهُ عُمَرَ، لقَدْ كانَ خَبِيْراً بِما تَقُوْمُ بِه الحَضاراتُ، وتَنْهَضُ بِه الرِّسالاتُ، وتَحْيا بِه الأُمَمُ الهامِدةُ؛ فإنَّ الأُمَمَ والرِّسالاتِ تَحْتاجُ إلى المَعادِنِ المَذْخُوْرَةِ، والثَّرْواتِ المَنْشُوْرةِ، ولَكِنَّها تَحْتاجُ قَبْلَ ذَلِكَ إلى الرُّؤُوْسِ المُفَكِّرَةِ التِي تَسْتَغِلُّها، والقُلُوْبِ الكَبِيْرةِ التِي تَرْعاها، والعَزائِمِ القَوِيَّةِ التِي تُنَفِّذُها، إنَّها تَحْتاجُ إلى الرِّجالِ.

فَما أحْوَجَنا فِي هذا الزَّمانِ إلى أَمْثالِ هَؤُلَاءِ الرِّجالِ أَصْحابِ الإِيمانِ الرَّاسِخِ الذِيْنَ يُواجِهُونَ الأَعْداءَ وَالطَّواغِيتَ بِصَلابَةٍ وَرَباطَةِ جَأْشٍ وَثَباتٍ؛ لِأَنَّ الأُمَّةَ لا يَنْقُصُها المالُ ولا العَدَدُ ولا العَتادُ، إنَّما يَنْقُصُها الرِّجالُ، فَيا لَهُ مِنْ دِينٍ لَوْ كانَ لَهُ رِجالٌ.

مقالات مشابهة

الرُّجُولَةُ

منذ 0 ثانية

د. يوسف علي فرحات - خطيبٌ بوَزارةِ الأوْقاف

كَيْفِيَّةُ صِلَةِ الأرْحامِ؟

منذ 38 ثانية

د. نمر أبو عون - خطيب بوزارة الأوقاف

حُكْمُ العَلْمَانِيَّةِ

منذ 2 دقيقة

أ. محمد سلامة - خطيب بوَزارة الأوقاف  

سُنَّةُ اللهِ فِي إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ

منذ 3 دقيقة

د. محمد كمال سالم - خطيبٌ بِوَزَارَةِ الأَوْقَافِ

الوسائط

هدفنا الارتقاء بأداء العاملين في إدارة المساجد وتطوير الأنشطة المسجديةإقرء المزيد عنا

كُن على تواصل !!

آخر الأخبار

الرُّجُولَةُ

منذ 0 ثانية2892
كَيْفِيَّةُ صِلَةِ الأرْحامِ؟

منذ 38 ثانية2681
مسجد عباد الرحمن - حي السد العالي

منذ 41 ثانية3444
Masjedna © Copyright 2019, All Rights Reserved Design and development by: Ibraheem Abd ElHadi