شريط الأخبار

الاعْتِكَافُ وَآثَارُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَالتَّرْبَوِيَّةُ

أ. محمد شاكر البنا - خطيب بوَزارة الأوقاف منذ 0 ثانية 2831

اقْتَضَتْ سُنَّةُ اللهِ القَدَرِيَّةُ أَنَّ الأَعْمَالَ بِالخَوَاتِيمِ؛ لِذَا وَجَبَ عَلى المُسْلِمِ الحَصِيفِ الوَاعِي أَنْ يَسْتَعِدَّ لِآخِرِ عَمَلِهِ، وَخِتَامِ دُنْيَاهُ بِطَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ؛ كان النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْبِسُ نَفْسَهُ فِي المَسْجِدِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْهُ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ القَدْرِ؛ رَجَاءَ أَنْ يَفُوزَ هُوَ بِعَظِيمِ الأَجْرِ، وَأَنْ يُخْتَمَ لَهُ رَمَضَانُ بِخَاتِمَةِ الْحُسْنِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رضِي اللهُ عَنْها-: »أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ« [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا].

القَارِئُ الكَرِيمُ: الاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً فِي رَمَضَانَ، وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَمَقْصُودُهُ الأَسْمَى: عُكُوفُ القَلْبِ عَلى عِبَادَةِ اللهِ، وَالفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ مَرْضَاتِهِ، وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ: قَطْعُ الاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا، وَتَفْرِيغُ البَالِ مِنْهَا، وَالتَّخَلِّي لِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالى، وَلُزُومِ ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ.

وَلَمَّا كَانَ الاعْتِكَافُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ حَبْسِ النَّفْسِ فِي المَسْجِدِ بِلَا خُرُوجٍ إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَالانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ؛ لَزِمَ أَنْ يُجَاهِدَ المُعْتَكِفُ نَفْسَهُ فِي تَحْقِيقِ مَقْصدِ الشَّارِعِ مِنْهُ: فَيُخْلِصُ فِي اعْتِكَافِهِ، وَلَا يَقْصِدُ بِهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، وَيَجْتَهِدُ فِي العِبَادَةِ، مِنْ صِيَامٍ، وَصَلَاةٍ، وَدُعَاءٍ، وَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ، وَتَسْبِيحٍ، وَاسْتِغْفَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَاتِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رضِي اللهُ عَنْها- قَالَتْ: »كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ« [رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]، وَفِيْ رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: »كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ«.[رواه مسلم]

فَهَلُمَّ هَلُمَّ أَيُّهَا الصَّائِمُ إِلَى هَذِهِ السُّنَّةِ القَيِّمَةِ؛ رَجَاءَ أَنْ يُخْتَمَ لَكَ رَمَضَانُ بِخَيْرِ عَمَلٍ، وَتَكُونَ مِنَ الفَائِزِينَ بِقِيَامِ لَيْلَةِ القَدْرِ إِيْمَاناً وَاحْتِسَاباً؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضِي اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ: «وَإِنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ].

وَاعْلَمْ أَيُّهَا الفَاضِلُ: أَنَّ الاعْتِكَافَ لَيْسَ مَوْسِمَاً لِلْحَدِيثِ مَعَ الآخَرِينَ مِنَ الأَخِلَّاءِ وَالأَصْدِقَاءِ، وَلَا كَذَلِكَ مَحْفَلاً لِاجْتِمَاعِ أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالمُسَلِّيَاتِ، وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِ الأَسْوَاقِ، وَلَا كَذَلِكَ كَثْرَةِ النَّوْمِ، وَالتَّثَاقُلِ مِنْ طُولِ قِرَاءَةِ الإِمَامِ، وَتَأَمَّلْ معي ثَنَاءَ اللهِ تَعَالى عَلى القَائِمِينَ، قَالَ تَعَالى: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السَّجْدَة:16].

أَخِي المُعْتَكِفَ: اعْلَمْ أَنَّ الاعْتِكَافَ مَدْرَسَةٌ إِيمَانِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ، يَنْبَغِي أَنْ تَتَخَرَّجَ مِنْها عَلى حَالٍ أَفْضَلَ مِنَ التِي كُنْتَ عَلَيْها قَبْلُ، فَمَنْ كَانَ حَالُهُ كَأَمْسِهِ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَمَنْ كَانَ حَالُهُ أَفْضَلَ مِنْ مَاضِيهِ فَهُوَ المَغْبُوطُ، فَاجْتَهِدْ أَنْ تَتَخَرَّجَ مِنْ مَدْرَسَةِ الاعْتِكَافِ أَكْثَرَ عَزِيمَةً عَلى المُدَاوَمَةِ عَلى صَلاةِ الجَمَاعَةِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ؛ وَأَنْ يَصْعَدَ مِنْكَ إِلَى اللهِ كُلَّ يَوْمٍ وِرْدٌ مِنَ القُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَأَنْ تَكُفَّ يَدَكَ وَلِسَانَكَ وَعَيْنَكَ عَمَّا نَهَاكَ اللهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ؛ فَبِهَذِهِ الأَخْلَاقِ، وَتِلْكَ السُّلُوكِيَّاتِ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرْغِمَ أَنْفَ أَلَدِّ أَعْدَائِكَ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَتَنْتَصِرَ عَلَى نَفْسِكَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَحِينَهَا سَتَكُونُ أَقْدَرَ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالى عَلَى إِرْغَامِ كُلِّ عَدَوٍّ بَعْدَ ذَلِكَ.

مقالات مشابهة

الاعْتِكَافُ وَآثَارُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَالتَّرْبَوِيَّةُ

منذ 0 ثانية

أ. محمد شاكر البنا - خطيب بوَزارة الأوقاف

بَعْدَ الطَّاعَاتِ.. طَلَبُ القَبُولِ وَالثَّبَاتُ

منذ 2 دقيقة

شبكة مساجدنا الدعوية – فلسطين

تَحْدِيدُ مَفْهُومِ الغُلُوِّ ضَرُورَةٌ لِمُعالَجَةِ الغُلُوِّ

منذ 3 دقيقة

د. يوسف علي فرحات - خطيبٌ بوَزارةِ الأوْقاف

حُكْمُ إِطْلَاقِ النَّارِ فِي الهَوَاءِ

منذ 5 دقيقة

د. محمد سليمان الفرا - خطيبٌ بِوَزَارَةِ الأَوْقَافِ

الوسائط

هدفنا الارتقاء بأداء العاملين في إدارة المساجد وتطوير الأنشطة المسجديةإقرء المزيد عنا

كُن على تواصل !!

آخر الأخبار

الاعْتِكَافُ وَآثَارُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَالتَّرْبَوِيَّةُ

منذ 0 ثانية2831
مشروع مكتبة البيت المسلم

منذ 2 ثانية3012
الزيارات الاجتماعية الدعوية لبيوت غير الملتزمين بالمسجد

منذ 35 ثانية3418
Masjedna © Copyright 2019, All Rights Reserved Design and development by: Ibraheem Abd ElHadi