شريط الأخبار

مِنْحَةٌ وَسْطَ المِحْنَةِ

د. شادي حمزة طبازة - خطيب بوزارة الأوقاف منذ 0 ثانية 2684

حامدًا اللهَ تعالى على نِعَمِه وآلائِه، ومُصلِّيًا ومُسلِّمًا على سيِّدِنا وحبيبِنا وقُرَّةِ عَيْني مُحمَّدٍ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وبعد:

توالتِ المِحَنُ والأَزَماتُ في هذه الأيامِ على كُلِّ مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ جلَّ وعلا في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها؛ ممّا يُحْزِنُ القلبَ ويُؤْلِمُ النفسَ ويكادُ الإنسانُ المسلِمُ ينفجرُ غيْظًا وألماً وحزنًا، فأردْتُ بهذه الكلماتِ أن أُطَمْئِنَ القلوبَ بأنَّ المِنَحَ مِنْ اللهِ تعالى تأتي في وسَطِ الأزماتِ والأحزانِ والآهاتِ .

وإنَّ أبْرزَ نَمُوذَجٍ يؤكِّدُ هذه القاعدةَ ما حدَث مَعَ سيدي رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقد تعرَّض -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأوقاتٍ عصيبةٍ وآلامٍ كثيرةٍ مِنْ أوّلِ لحْظةٍ أعلن فيها أنه رسولُ اللهِ، فقال أبو لهبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا! فَنَزَلَتْ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد:1-5] [صحيح البخاري، ح/4496].

واستمرتْ هذه الآلامُ وزاد الهجومُ على كلِّ مَنْ ينطِقُ بِاسمِ الإسلامِ، بل وكثُر التعذيبُ والإيذاءُ للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابِه الكرامِ -رضي الله عنهم-، ففي صحيحِ البُخَاريِّ مِنْ حديثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ ابْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، [أخرجه البخاري في صحيحه، ح/‏3665].

وقد وصَل الأمرُ إلى ذُرْوَتِه والمحنةُ إلى أَوْجِها، ففي صحيحي البُخاريِّ ومُسلِمٍ مِنْ حديثِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبير -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَتْهُ: أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ ابْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» [أخرجه البخاري في صحيحه، ح/‏3075].

ومِنْ وسْطِ هذه المحنِ لابُدَّ مِنَ اللُّجُوءِ إلى مَنْ يملِكُ الفرَجَ والخَلاصَ، فهو القائلُ سبحانَه: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، فبَعَدَ أن رأَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشَدَّ مشاهِدِ الإيذاءِ، تراه يَرْفعُ أَكُفَّ الضَّرَاعةِ إلى اللهِ تعالى بالدعاءِ، راجيًا النُصرةَ مِنْ ربِّه وتأييدَه، مَعَ حِرْصِهِ على قوْمِه وأُمَّتِه، وخَوْفِهِ عليهم، في الوقتِ الذي يملِكُ فيه الخَلاصَ مِنْهم في لحظةٍ واحدةٍ، بأمرٍ واحدٍ، إنْ أرادَ ذلك، إلا أنّه يأْبَى ويختارُ اللجوءَ إلى اللهِ تعالى بالدعاءِ، فقد أخرج الطَبَرَانِيُّ، مِنْ طَريقِ عَبْـــــــــدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ. قَالَ: فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ» [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ح/13609، وإسناده حسن].

وما إِنْ يُتِمُّ اللجوءَ إلى الله جلَّ في علاه حتى تأتيَ المِنْحةُ مِنْ وَسَطِ هذه الآلامِ والأحْزانِ والمحنِ، فلقد أرسلَ اللهُ جِبْرِيلَ ومَعَه مَلَكُ الجبالِ لِنُصْرةِ حبيبِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وقد دخلَ الإسلامُ في عالَمِ الجِنِّ، قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [غافر:1-2]، وعاد النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى مَكَّةَ ودعا أوّلَ جماعةٍ مِنْ أهْلِ يَثْرِبَ إلى الإسلامِ ليبدأَ بتأسيسِ دوْلةِ الإسلامِ على أرضِ المدينةِ، وحدَثتْ حادِثةُ الإسراءِ والمِعْراجِ ليرتقيَ محمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّماواتِ العُلَا.

فالمِنَحُ تأتي في أحْلكِ الظُّروفِ وأصْعبِ الأزماتِ، فلْيطمئنَّ كلُّ مَنْ آمنَ باللهِ ربَّاً، وبالإسلامِ ديناً وبمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبيًا ورسولًا، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

مقالات مشابهة

مِنْحَةٌ وَسْطَ المِحْنَةِ

منذ 0 ثانية

د. شادي حمزة طبازة - خطيب بوزارة الأوقاف

العابِدُونَ الآثِمُونَ!!

منذ 1دقيقة

أ. نور رياض عيد - خطيبٌ بوَزارةِ الأوْقاف

الاعْتِكَافُ وَآثَارُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَالتَّرْبَوِيَّةُ

منذ 2 دقيقة

أ. محمد شاكر البنا - خطيب بوَزارة الأوقاف

السَّعْيُ فِي حَاجَةِ الآخَرِينَ

منذ 3 دقيقة

أ. وفا محمود عياد - خطيب بوَزارة الأوقاف

الوسائط

هدفنا الارتقاء بأداء العاملين في إدارة المساجد وتطوير الأنشطة المسجديةإقرء المزيد عنا

كُن على تواصل !!

آخر الأخبار

مِنْحَةٌ وَسْطَ المِحْنَةِ

منذ 0 ثانية2684
العابِدُونَ الآثِمُونَ!!

منذ 1دقيقة2600
مفهوم الحب والتعاون الدعوي وأثرهما على رواد المسجد

منذ 1دقيقة3108
Masjedna © Copyright 2019, All Rights Reserved Design and development by: Ibraheem Abd ElHadi