
أَحْبَابَنا الكِرَامَ.. هَذَا العُنْوَانُ لِلْمَقَالِ هُوَ الآيَةُ الأَخِيرَةُ مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحِجْر:99]، وَهُوَ يَحْمِلُ مَعْنَيَيْنِ بَارِزَيْنِ، الأَوَّلَ: العِبَادَةَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ)، وَالثَّانِيَ: اليَقِينَ وَمَعَانِيَهِ وَدَلَالَاتِهُ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تَعَالى: (حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ)، فَتَعَالَوْا بِنَا نَتَعَرَّفْ عَلَى هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ.
العِبَادَةُ فِي لُغَةِ العَرَبِ تَأْتِي عَلَى خَمْسَةِ مَعَانٍ، الأَوَّلِ: الخُضُوعِ، الثَّانِي: الذُّلِّ، الثَّالِثِ: الطَّاعَةِ، الرَّابِعِ: المَمْلُوكِيَّةِ، الخَامِسِ: التَّنَسُّكِ، وَلَقَدْ أَضَافَ الشَّرْعُ مَعْنَىً آخَرَ جَدِيداً إِلَى المَعَانِي الخَمْسَةِ التِي سَبَقَ ذِكْرُها، أَلَا وَهُوَ الحُبُّ، فَالحُبُّ مَعْنَىً جَدِيدٌ يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ العِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا تَكُونُ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا حُبٌّ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ تِلْكَ الأَرْكَانُ الخَمْسَةُ مَعَ الحُبِّ تَكَوَّنَتِ العِبَادَةُ، وَإِذَا لَمْ تَجْتَمِعْ مَعَهُ لَمْ تَتَكَوَّنِ العِبَادَةُ؛ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْضَعَ الإِنْسَانُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ وَيَذِلَّ وَيُطِيعَ وَهُوَ كَارِهٌ غَيْرُ مُحِبٍّ، فَهَذِهِ الأَفْعَالُ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً، إِذًا مَا هِيَ العِبَادَةُ؟
يُعَرِّفُها العُلَمَاءُ فِي الشَّرْعِ بِأَنَّها: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ البَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ العِبَادَةَ للهِ هِيَ الغَايَةُ المَحْبُوبَةُ للهِ وَالمُرْضِيَةُ لَهُ التِي خَلَقَ الخَلْقَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ﴾ [الذَّارِيات:56]، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَيْ خَلَقَهُمْ لِأَمْرِهِمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَنَهْيِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَبِهَا –أَعْنِي العِبَادَةَ– أُرْسِلَ جَمِيعُ الرُّسُلِ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَاْ فَاعْبُدُونَ﴾ [الأَنْبِياء:25].
أَمَّا اليَقِينُ فَيُعَرِّفُهُ العُلَمَاءُ: العِلْمُ الذِي يُوْجَدُ عِنْدَهُ بَرْدُ الثِّقَةِ فِي الصَّدْرِ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْدِيقُ الشَّيْءِ تَصْدِيقًا مُؤَكَّدًا بِحَيْثُ لَا يَطْفُو عَلَى سَطْحِ الذِّهْنِ أَيُّ شَكٍّ لِمُنَاقَشَتِهِ، قَالَ تَعَالى: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِيْنَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المُدَّثِّر:31]، وَقَدْ عَبَّرَ القُرْآنُ الكَرِيمُ عَنِ اليَقِينِ بِلَفْظِ الظَّنِّ، قَالَ تَعَالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:46]، فَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى اليَقِينِ، وَقَدْ جَاءَ اليَقِينُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ المَوَاضِعِ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ بِمَعْنَى المَوْتِ كَمَا فِي عُنْوَانِ مَقَالِنا هَذَا، قَالَ تَعَالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحِجْر:99]، قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: اليَقِينُ المَوْتُ، قَالَ الإِمَامُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلاً دُونَ المَوْتِ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحِجْر:99]، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا أَرَى يَقِينًا أَشْبَهَ بِالشَّكِّ مِنْ يَقِينِ النَّاسِ بِالمَوْتِ».
أَمَّا عَنْ مَصَادِرِ اليَقِينِ، فَهِيَ ثَلَاثَةٌ:
المَصْدَرُ الأَوَّلُ: عِلْمٌ مِمَّنْ تَثِقُ بِصِدْقِهِ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ تَعَالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ [التَّكَاثُر:5].
المَصْدَرُ الثَّانِي: عَيْنٌ تَرَى الحَدَثَ فَتَتَيَقَّنُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالى: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ [التَّكَاثُر:7].
المَصْدَرُ الثَّالِثُ: هُوَ حَقِيقَةٌ تَدْخُلُ فِيهَا، قَالَ تَعَالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الوَاقِعَة:95-96].