شَرَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ الأَحْكَامَ، وَأَنَارَ عُقُولَهُمْ وَأَفْهَامَهُمْ بِسُبُلِ السَّلَامِ، المُوْصِلَةِ إِلَى رِضَا الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48]، وَمِنَ المُسَلَّمِ بِهِ أَنَّ الفِقْهَ الإِسْلَامِيَّ هُوَ خُلَاصَةُ إِعْمَالِ عُقُولِ العُلَمَاءِ وَالفُقَهَاءِ وَزُبْدَتُهُ، وَأَفْهَامِهِمُ المُخْتَلِفَةِ لِنُصُوصِ الشَّرْعِ الحَنِيفِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَانِبِ العَمَلِيِّ مِنَ المِلَّةِ وَالدِّينِ، فَالفِقْهُ كَمَا عَرَّفُوهُ هُوَ: العِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ المُكْتَسَبَةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.
وَالمُقَارَنَةُ الفِقْهِيَّةُ مَا بَيْنَ الآرَاءِ وَالمَذَاهِبِ الشَّرْعِيَّةِ المُعْتَبَرَةِ شَكَّلَتْ فِي مَجْمُوعِهَا حَالَةً مِنَ الثَّرَاءِ الفِكْرِيِّ وَالإِثْرَاءِ البَشَرِيِّ، فِي المَسَاحَاتِ الحُرَّةِ، وَالمُتَغَيِّرَاتِ التِي تُتِيحُ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَتَحَرَّكَ، وَيَسْتَنْبِطَ وَيُقَرِّرَ الأَحْكَامَ الفِقْهِيَّةَ فِي خِضَمِّ مُسْتَجَدَّاتِ الحَيَاةِ المُخْتَلِفَةِ، وَيَسْتَخْدِمَ العَصْفَ الذِّهْنِيَّ الذِي لَا يَنْتَهِي بَتَاتَاً إِلَّا بِانْتِهَاءِ حَرَكَةِ الكَوْنِ وَالبَشَرِيَّةِ.
وَلَقَدِ امْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ إِذْ بَصَّرَهُمْ وَأَرْسَلَ لَهُمُ الحُجَجَ وَالبَرَاهِينَ اليَقِينِيَّةَ، وَجَعَلَ الشَّرِيعَةَ الإِسْلَامِيَّةَ وَأَحْكَامَهَا فِي مُنْتَهَى البَيَانِ وَالوُضُوحِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام:104-105]، بَلْ لَقَدْ أَمَرَ المَوْلَى -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْبِيَاءَهُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَعَلَى رَأْسِهِمْ رَسُولُنَا الحَبِيبُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بِالْبَصِيرَةِ وَالتَّبَصُّرِ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَمْرٌ ضِمْنِيٌّ لِأَتْبَاعِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:108].
وَالبَصِيرَةُ نَجَاةٌ، أَلَمْ تَرَ إلى الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا أَهْلَكَ اللهُ قَوْمًا، وَلَا قَرْنًا، وَلَا أُمَّةً، وَلَا أَهْلَ قَرْيَةٍ مُنْذُ أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ، غَيْرَ أهلِ القَرْيَةِ التي مُسِخَتْ قِرَدَةً، أَلمْ تَرَ إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص:43]» [السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ لِلْأَلْبَانِيِّ، ح/2258 ].
لَقَدْ شَكَّلَتْ مَسِيرَةُ العَوْدَةِ الكُبْرَى التِي لَجَأَ إِلَيْها أَبْنَاءُ شَعْبِنَا الفِلَسْطِينِيِّ فِي وَقْتِنَا الحَالِيِّ حَدَثًا مُهِمَّاً، وَوَسِيلَةً قَدِيمَةً جَدِيدَةً، وَأَدَاةً يُوَظِّفُهَا لِلِانْتِفَاضِ فِي وَجْهِ العَدُوِّ الصُّهْيُونِيِّ، وَقَدِ اعْتَرَاهَا العَدِيدُ مِنَ الجَوَانِبِ الفِقْهِيَّةِ وَالمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ المُعَاصِرَةِ، فِي ظِلِّ تَقْدِيرَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِجَوْهَرِهَا وَمَآلاتِها، وَمُرَاعَاةِ المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا.
إِنَّ خُرُوجَ عَدَدٍ مِنَ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ المُعْتَبَرِينَ الذِينَ يَحْمِلُونَ البَلْسَمَ الشَّافِيَ، وَالتِّرْيَاقَ الكَافِيَ، وَيَتَصَدَّرُونَ المَشْهَدَ فِي مَسِيرَاتِ العَوْدَةِ الكُبْرَى، وَيُعَدُّونَ كَمَرْجَعِيَّاتٍ دِينِيَّةٍ، وَانْبِرَاءَ عَدَدٍ مِنْهُمْ لِلْإِفْتَاءِ وَبَيَانِ مَوْقِفِ الشَّرْعِ مِنْهَا يُمَثِّلُ إِطَارًا قَوِيَّاً جَامِعَاً، وَحَافِزًا ضَامِنَاً لِدَيْمُومَةِ هَذِهِ المَسِيرَةِ، بَعِيدًا عَن التَّرَدُّدِ، أَوْ الانْفِلَاتِ الجَامِحِ لَدَى البَعْضِ، لِلْخُرُوجِ عَنِ الأَهْدَافِ المَرْسُومَةِ لَهَا، ضِمْنَ سِيَاقَاتٍ وَإِطَارَاتٍ فِقْهِيَّةٍ جَامِعَةٍ، تُسَدِّدُ وَتُقَارِبُ، وَتُقَدِّرُ وَتُحَدِّدُ.
وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلِيْهِ أَنِّ الحَالَةَ التِي اكْتَنَفَتْ مَسِيرَةَ العَوْدَةِ وَتَعَاظُمَ زَخَمِهَا وَفَعَالِيَّاتِهَا يَقْتَضِي عَلى الدُّعَاةِ وَالعُلَمَاءِ أَنْ يَتَصَدَّرُوا المَشْهَدَ بِقُوَّةٍ، وَأَكْثَرَ فَعَالِيَّةٍ مِنَ الوَاقِعِ المَوْجُودِ الآنَ؛ لِتَوْجِيهِ الثَّائِرِينَ المُنْتَفِضِينَ، وَتَقْدِيمِ الزَّادِ الإيمَانِيِّ وَالفِقْهِيِّ، وَالرَّدِّ عَلَى المُثَبِّطِينَ، وَالمُتَفَيْهِقِينَ المُزَاوِدِينَ مِنْ خِلالِ فِقْهِ الدِّينِ، وَاسْتِنَارَةِ المُتَبَصِّرِينَ، وَكَمْ مِنْ فَقِيهٍ حَكِيمٍ، عَالِمٍ بِعَصْرِهِ، قَادَ أُمَّةً كَامِلَةً بِرُشْدِهِ وَفِقْهِهِ، وَكَانَ سَبَبَاً فِي النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ.