
إِنْ امْرُؤٌ عَايَشَ آخَرَ بِصَدَاقَةٍ قَوِيَّةٍ طَالَتْ عُرَاهَا وَبَلَغَتْ سَنَاهَا، يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ مَاضِيهِ الجَمِيلُ وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا السَّيْفَ مَرَّةً فِي نَظَرِهِ، وَرُبَّمَا تَارَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُسِيغُ الزَّوْجُ أَنْ يَهِيضَ أَجْنِحَةَ الرَّحْمَةِ وَالمَوَدَّةِ وَالالْتِحَامِ النَّفْسِيِّ وَبَثِّ الأَسْرَارِ وَمَعْرِفَةِ المَدَاخِلِ وَالمَخَارِجِ وَالصِّفَاتِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا مَعَ زَوْجِهِ بِحَيْثُ صَارَا رُوحًا وَاحِدَةً تَجَاذَبَهَا جَسَدَانِ، وَيَعْتَدِيَ عَلَى زَوْجِهِ بِيَدِهِ وَلَوْ بِشَيْءٍ يَقِلُّ أَوْ يَكْثُرُ، فَالَيَدُ التِي تَضْرِبُ لَا تَتْرُكُ آثَارَهَا عَلَى الجَسَدِ بَلْ تَحْفِرُ أَخَادِيدَهَا فِي القَلْبِ، مُتَجَاوِرَةً مَعَ كَلِمَةٍ يَقُولُهَا الزَّوْجُ لِزَوْجِهِ مِنْ غَضَبٍ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً فَتَجْرَحُ رُوحَهَا وَتُعَكِّرُ صَفَاءَها وَتُغَبِّشُ نَعَامَةَ بَالِهَا.
إِنَّ المَرْأَةَ كِيَانٌ أَرَقُّ فِي تَكْوِينِهَا مِنَ الرَّجُلِ الذِي وَظِيفَتُهُ إِلَى جَانِبِ حِفْظِ كِيَانِيَّةِ أُسْرَتِهِ، أَنْ يَشْقَى وَيَكُدَّ وَيَتْعَبَ وَيَضْرِبَ فِي مَنَاكِبِ الأَرْضِ ذَلُولِهَا وَوَعْرِهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤَمِّنَ حَاضِرَ أُسْرَتِهِ وَيُحَضِرَ لَهَا المِيرَةَ اليَوْمِيَّةَ، وَهُوَ لِذَا مُحْتَاجٌ مِنْ زَوْجِهِ أَنْ يَكُونَ كَدُّهَا فِي مَنْزِلِهَا وَمَعَ وَلَدِهِمَا وَتَعْتَنِيَ بِنَفْسِهَا كَمَا هُوَ يَتَجَمَّلُ كَذِلَكَ، وَهَذَا كُلُّهُ كَفِيلٌ بِأَنْ يَجْعَلَ النَّظْرَةَ هُنَا مُخْتَلِفَةً عَنْ أَيِّ إِطَارٍ.
وَنحْنُ إِذْ نُجَالِسُهُ هَذِهِ المَرَّةَ مُجَالَسَةً تَذْكِيرِيَّةً، نُخْبِرُهُ أَنَّ سُلُوكَ الطَّرِيقِ إِلَى ضَرْبِ المَرْأَةِ لَيْسَ مَطْلُوبًا بِظَاهِرِيَّتِهِ، فَالدَّرَجَةُ الأُولَى كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ [النِّسَاء:34] هَكَذَا مُرْسَلَةً لِتَحْتَمِلَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ العِظَةِ وَالتَّفَنُّنِ فِي أَلْوَانِهَا وَ"تَقْدِيدِ" طَرَائِقِهَا، وَتَوْجِيهِهَا مَرَّةً لِسَانًا وَأُخْرَى جَوَّالاً أَوْ رُسَيْلَةً مَكْتُوبَةً، أَوْ بَاقَةَ وَرْدٍ تَذْكِيرِيَّةً، أَوْ هَدِيَّةً مِنْ أَيَّامِ زَمَانٍ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا مَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي العَوْدِ إِلَى جَمَالِيَّاتٍ مُمْكِنَةٍ مَعَ رَغْبَةٍ وَإِرَادَةٍ سَابِقَةٍ، بَلْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَهَا إِيجَادَ حَلٍّ مُنَاسِبٍ يُسَاعِدَانِ بَعْضَهُمَا عَلَى نَشْرِ أَشْرِعَتِهِ وَسِقَايَةِ "أَزْرِعَتِهِ" لِيُكَوِّنَا مَعًا حَبْلَ اتِّصَالٍ مَكِيناً لَا تُنْقَضُ عُرَاهُ.
بَلْ إِنَّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ تُوَعِّرُ طَرِيقَ الوُصُولِ إِلَى "الضَّرْبِ المُحْتَمَلِ" بِـ ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ [النِّسَاء:34]؛ إِذْ لَمْ تَكْتَفِ بِالإِرْشَادِ إِلَى الْهَجْرِ وَسِيلَةً تَأْدِيبِيَّةً فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا لَمْ تَنْفَعِ الأُولَى، بَلْ أَكَّدَتْ عَلَى عُقُوبَةٍ تُبْقِي التَّوَاصُلَ البَصَرِيَّ مَوْجُودًا، وَتُورِقُ التَّفَاعُلَ وَالتَّوَاصُلَ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ؛ لِتَقْطَعَ عَلَى الشَّيْطَانِ حَبْلَ إِسْفَافِهِ، وَلِتُغْرِيَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَكْسِرَا غُرُورَهُمَا وَيُعَاوِدَا حَيَاتَهُمَا أَيْنَعَ ائْتِلَاقًا، وَأَصَحَّ اسْتِفَادَةً.
وَكَأَنَّ الآيَةَ تُرِيدُ إِخْبَارَ الزَّوْجِ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أَنَّ "الضَّرْبَ" الذِي شَرْطُهُ أَصَلاً عَدَمُ الشِّدَّةِ وَالتَّكْسِيرِ وَإِغْلَاقِ العَيْنَيْنِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تَفْكِيرِ الرَّجُلِ، فَضْلاً عَنْ أَنَّهَا تُوْمِئُ لَهُ بِضَعْفِهِ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمَا، حَتَّى وَإِنْ بَدَتْ زَوْجُهُ مُشَاكِسَةً عَنِيدَةً تُكَرِّرُ الغَلَطَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَاجِبِهِ كَمَا يُحْضِرُ الطَّعَامَ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ فِي تَغْذِيَةِ عَقْلِهِ وَإِمْكَانَاتِهِ بِالأَفْكَارِ المُتَنَوِّعَةِ التِي تَحُلُّ مُشْكِلَاتِهِ، وَتَفْتَحُ مُغْلَقَاتِ زَوْجِهِ التِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَدْرَى بِمَفَاتِيحِهَا جمِيعِهَا، وَأَعْجَبُ كَثِيرًا عِنْدَمَا يُوَسِّعُ الزَّوْجُ دَائِرَةَ اسْتِشَارَاتِهِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَجْرًا عَلَيْهِ، فَضَلاً عَنْ أَنَّهُ أَسْلَمُ لَهُ فِي هَذَا أَنْ يَسْتَشِيرَ شَيْئًا مَكْتُوبًا أَوَ مَسْمُوعًا أَو إِرْشَادَاتٍ مَنْثُورَةً وَمَشْهُورَةً، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ يَأْخُذَهَا مُبَاشَرَةً مِنْ أَحَدٍ إِلَّا فِي حَالَاتٍ نَادِرَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ هَذَا أَنْ يُقَوِّيَهُ وَيَدْعَمَهُ نَفْسِيًّا، المُهِمُّ أَنْ يَبْدَأَ مُتَوَكِّلاً عَلَى اللهِ مُتَسَلِّحًا بِالإِرَادَةِ، وَلَنْ يُضِيعَ اللهُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً.