
قَالَ تَعَالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإِسْرَاء:1]، هَذِهِ الآيَةُ الأُولَى مِنْ سُّورَةِ الإِسْرَاءِ، وَالإِسْرَاءُ مِحْوَرُهَا، فَهِيَ سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا سَمَّاهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَسُورَةُ الإِسْرَاءِ تَتَحَدَّثُ عَنْ آلَامِنَا وَوَاقِعِنَا وَعَنْ تَحْرِيرِ فِلَسْطِينَ وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى.
إِذِ ابْتَدَأَتِ السُّورَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالى: (سُبْحَانَ)، وَهَذِهِ الكَلِمَةُ مَصْدَرُ سَبَّحَ، وَالسَّبْحُ لَهُ أَنْظِمَةٌ وَقَوَانِينُ مُعَيَّنَةٌ، كَالسِّبَاحَةِ فِي المَاءِ، فَلَوْ خَالَفَهَا السَّابِحُ لَغَرِقَ، وَهَكَذَا فَجَعَلَ اللهُ لِلْكَوْنِ قَوَانِينَ، مَنْ خَالَفَهَا غَرِقَ وَلَمْ يُحَقِّقْ مُرَادَهُ، وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مَنْظُومَةٌ وَاحِدَةٌ يَجِبُ أَنْ تَدِينَ للهِ تَعَالى كَمَا النُّجُومُ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يَس:40]، فَلَوْ خَرَجَ النَّجْمُ عَنْ مَدَارِهِ لَزَالَ وَلَتَفَتَّتَ، وَهَكَذَا نَحْنُ إِذَا خَرَجْنَا عَنْ دَائِرَةِ النِّظَامِ الطَّائِعِ للهِ زُلْنَا وَهَلَكْنَا، وَمَصْدَرُ هَذَا القَانُونِ هُوَ اللهُ، فَقَالَ تَعَالى: (سُبْحَانَ الَّذِي)، وَلَمْ يَقُلْ (سُبْحَانَ اللهِ)؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ غَائِبٍ.
(أَسْرَى): مِنَ السرِيِّ، وَلَهُ مَعْنَيَانِ، هُمَا: التَّعْجِيلُ، وَالسَّيْرُ فِي خَفَاءٍ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْرِيرَ الأَقْصَى فَعَلَيْهِ: المُبَادَرَةَ لِلْعَمَلِ وَاغْتِنَامَ الفُرَصِ دُونَ تَوَانٍ، وَالسِّرِّيَّةَ التَّامَّةَ فِي الْعَمَلِ وَإِخْفَائِهِ.
(بِعَبْدِهِ): لَمْ يَقُلْ (بِنَبِيِّهِ)؛ لِيُبَيِّنَ لَنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِتَحْرِيرِ الأَقْصَى وُجُودُ نَبِيٍّ، إِنَّمَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ تَعَالى، وَهِيَ الانْقِيَادُ التَّامُّ لَهُ.
(لَيْلًا): لِيُبَيِّنَ أَنَّ الطَّرِيقَ لِتَحْرِيرِ القُدْسِ مُحَاطٌ بِالْظَّلَامِ، فَكَمَا شَقَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الظَّلَامَ وَوَصَلَ إِلَيْهِ، فَعَلَيْكُمْ بِشَقِّ الْظَّلَامِ مَهْمَا كَانَ بِالْعَمَلِ الدَّؤُوبِ وَالسِّرِّيَّةِ التَّامَّةِ لِتَصِلُوا إِلَى تَحْرِيرِهِ.
(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى): إِشَارَةً إِلَى البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، فَبِدَايَةُ الْخِلَافَةِ فِي الْحِجَازِ وَنِهَايَتُهَا فِي فِلَسْطِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا بْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ آلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْتَظِرْ عِنْدَهَا الأُمُورَ الْعِظَامَ»، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّ نَصْرَنَا آتٍ لَا مَحَالَةَ.
(بَارَكْنَا حَوْلَهُ): فَالْبَرَكَةُ هِيَ السِّرُّ فِي تِلْكَ الصِّرَاعَاتِ، وَلَوْلَا الْبَرَكَةُ لَمَا كَانَ هَذَا الْصِّرَاعُ، فَفِلَسْطِينُ أَرْضُ الْخَيْرَاتِ، فَمَكَّةُ لَا يَنْبُتُ فِيهَا الزَّرْعُ؛ لِتَكُونَ بَلَدًا آمِنًا، وَقَدْ أَشَارَ اللهُ تَعَالى إِلَى الْقُدْسِ وَمَا حَوْلَهَا بِالْتِّينِ وَالْزَّيْتُونِ، وَهُمَا دَلَالَةُ الْبَرَكَةِ؛ لِيُبَيِّنَ سَبَبَ ذَلِكَ الصِّرَاعِ.
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ): فَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ لِتَحْرِيرِ الأَقْصَى يُشَقُّ فِي الظَّلَامِ وَبِسِرِّيَّةٍ تَامَّةٍ، وَالْظُّلْمُ وَالْظَّلَامُ مُعْتِمٌ نَاسَبَ اسْمَ "السَّمِيعُ"، فَفِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَكُونُ الْسَّمْعُ أَهَمَّ مِنَ الْبَصَرِ، وَلَمَّا كَانَتِ المُؤَامَرَاتُ تُحَاكُ وَيَتَجَمّعُ أَعْدَاءُ الإِسْلَامِ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي تَدْبِيرِهَا نَاسَبَ اسْمَ "البَصِيرُ"؛ لِيُطَمْئِنَنَا أَنَّهُ غَيْرُ غَائِبٍ، وَأَنَّهُ يَرَى كُلَّ مَا يُحَاكُ فِي جُنْحِ الظَّلَامِ ضِدَّنَا، قَالَ تَعَالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البُرُوج:9].