
لَوْ نَظَرْتَ إِلَى حَالِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ سَتَجِدُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْعُرُ بِالسَّعَادَةِ رُغْمَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الكَثِيرَ مِنَ الخَيْرِ! فَمَا سِرُّ الشُّعُورِ بِالسَّعَادَةِ عِنْدَ البَعْضِ دُونَ الآخَرِينَ؟
لَا شَكَّ أَنَّ الكَثِيرَ مِنَ المُسْلِمِينَ لَهُمْ حَظٌّ وَافِرٌ وَنَصِيبٌ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَلَكِنْ بِدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، هَذِهِ الأَعْمَالُ تُمَثِّلُ الطَّاقَةَ الإِيمَانِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ، التِي كُلَّمَا زَادَتْ زَادَ الشُّعُورُ بِالسَّعَادَةِ، لَكِنْ هَذِهِ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ غَالِباً مَا تَتَزَاحَمُ مَعَ أُمُورٍ أُخْرَى تُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الطَّاقَةِ الإِيمَانِيَّةِ، هَذِهِ الأَشْيَاءُ هِيَ الذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ نَعِيَ "قَانُونَ السَّعَادَةِ" Happiness Law الذِي يَقُولُ: كَمَا نُفَكِّرُ كَيْفّ نُكْثِرُ مِنْ أَعْمَالِنَا الصَّالِحَةِ التِي تَرْفَعُ مَنْسُوبَ الطَّاقَةِ الإِيمَانِيَّةِ فِي قُلُوبِنَا، لَا بُدَّ لَنَا فِي نَفْسِ الوَقْتِ أَنْ نُفَكِّرَ بِكَيْفِيَّةِ الكَفِّ عَنِ الأَعْمَالِ الطَّالِحَةِ التِي تُؤَدِّي إِلَى إِهْدَارِ الطَّاقَةِ الإِيمَانِيَّةِ مِنْ قُلُوبِنا.
وَسَوْفَ أُشِيرُ فِي هَذَا المَقَالِ إِلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَعْمَالِ التِي تَتَسَبَّبُ فِي هَدْرِ الطَّاقَةِ الإِيمَانِيَّةِ وَاسْتِنْزَافِهَا مِنْ قُلُوبِنَا، أَلَا وَهُوَ: "الغِيبَةُ"، لَا سِيَّمَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الأَكْثَرِينَ قَدْ تَهَاوَنُوا فِيهَا حَتَّى نَسَوْا أَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِيهَا أَصْلاً، فَأَصْبَحَتِ الغِيبَةُ فَاكِهَةَ مَجَالِسِهِمْ وَزِينَةَ مَوَائِدِهِمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي، رُغْمَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّقْرِيعِ مِنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحُجُرات:12].
وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظَافِرُ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» [الآدَابُ لِلْبَيْهَقِيِّ:ح/109]، لِذَلِكَ حَرَصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى تَبْيِينِهَا وَتَجْلِيَتِها لَنَا؛ لِأَنّهُ مَا تَرَكَ خَيْراً إِلَّا وَدَلَّنَا عَلَيْهِ وَمَا تَرَكَ شَرَّاً إِلَّا وَحَذَّرَنَا مِنْهُ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟»، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟، قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَمِنْ جَمِيلِ مَا قَرَأْتُ مِنَ الخَوَاطِرِ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ: "إِنَّ أَكْثَرَ فِكْرَةٍ مُرْعِبَةٍ يَوْمَ الحِسَابِ، أَنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تُعْطِيَ أُمَّكَ وَلَا أَبَاكَ وَلَا ابْنَكَ أَيَّ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ مَحَبَّتِكَ الشَّدِيدَةِ لَهُمْ! وَلَكِنَّكَ فِي المُقَابِلِ سَتَكُونُ مُرْغَمًا عَلَى إِعْطَاءِ هَذِهِ الحَسَنَاتِ بِالمَجَّانِ لِشَخْصٍ تَكْرَهُهُ وَتُبْغِضُهُ؛ لِأَنَّكَ قَدِ اغْتَبْتَهُ يَوْماً!".
هَذَا المَعْنَى فَهِمَهُ سَلَفُنَا الصَّالِحُ فَهْماً جَيِّداً، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ الغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِنَّ فُلَاناً قَدِ اغْتَابَكَ فَقَالَ: أَوَقَدْ فَعَلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَخَلَ إِلَى بَيْتِهِ وَأَخْرَجَ طَبَقاً ومَلَأَهُ بِأَطَايِبِ التَّمْرِ وَذَهَبَ بِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: خُذْ هَذَا الطَّبَقَ هَدِيَّةً مِنِّي، قَالَ: وَمَا المُنَاسَبَةُ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ أَهْدَيْتَ إِلَىَّ مِنْ حَسَنَاتِكَ وَأَنَا أُكَافِئُكَ عَلَى ذَلِكَ.
الكَلَامُ فِي هَذَا المَقَامِ يَطُولُ وَلَكِنْ الحُرُّ تَكْفِيهِ الإِشَارَةُ، وَاللَّبِيبُ بِالإِشَارَةِ يَفْهَمُ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ نَعِيَ قَانُونَ السَّعَادَةِ الذِي يَقُولُ: كَمَا نُفَكِّرُ كَيْفَ نُكْثِرُ مِنْ أَعْمَالِنَا الصَّالِحَةِ، لَا بُدَّ فِي نَفْسِ الوَقْتِ أَنْ نُفَكِّرَ كَيْفَ نَكُفُّ عَنْ أَعْمَالِنَا الطَّالِحَةِ.