
مَنْ نَظَرَ فِي وَاقِعِ الأُمَّةِ فِي زَمانِنَا يَرَى أَنَّهَا تَفْتَقِدُ رَجُلاً، هُوَ بَوَّابَةُ المَجْدِ، وَبِهِ يَتَحَقَّقُ النَّصْرُ، أَعَلِمْتُمْ مَنْ هُوَ؟!
إِنَّهُ رَجُلُ السَّاقَةِ، وَهُوَ الذِي يَسْتَوِي عِنْدَهُ أَنْ يَعْمَلَ قَائِدَاً، أَوْ أَنْ يَعْمَلَ جُنْدِيّاً فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، مَا دَامَ فِي كِلَا المَوْقِعَيْنِ إِرْضَاءٌ للهِ تَعَالَى، فَلَا يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ حُبُّ الظُّهُورِ، وَتَصَدُّرُ المَوَاقِعِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الرِّئَاسَةِ وَالزَّعَامَةِ، وَاعْتِلَاءِ المَرَاكِزِ القِيَادِيَّةِ، بَلْ رُبَّمَا آثَرَ الجُنْدِيَّةَ خَشْيَةَ التَّفْرِيطِ فِي وَاجِبَاتِ القِيَادَةِ وَتَبِعَاتِها، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يَحْرِصُ عَلَيْها وَلَا يَطْلُبُهَا لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ إِذَا حَمَلَها حَمَلَها، وَاسْتَعَانَ بِاللهِ عَلَى القِيَامِ بِحَقِّها، وَقَدْ وَصَفَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الصِّنْفَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّع» [رواه البخاري].
مَا أَبْهَى هَذَا التَّعْبِيرَ النَّبَوِيَّ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النَّاسِ! رَجُلُ السَّاقَةِ هُوَ يُقَلِّبُ نَفْسَهُ فِي مَصَالِحِ الجِهَادِ، فَكُلُّ مَقَامٍ يَقُومُ فِيهِ، إِنْ كَانَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا؛ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللهِ، وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّةً لِطَاعَتِهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا يَبْتَغِي مَالاً وَلَا جَاهًا عِنْدَ النَّاسِ، بَلْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ النَّاسُ شَفَاعَتَهُ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللهِ شَفِيعًا مُشَفَّعًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعاً: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ» [رواه مسلم].
رَجُلُ السَّاقَةِ أَيْنَما وَقَعَ نَفَعَ كَالغَيْثِ، وَفِي كُلِّ بُسْتَانٍ لَهُ زَهْرَةٌ يَفُوحُ عَبِيرُهَا عَلَى كُلِّ مَنْ لاحَ فِي هَذَا البُسْتَانِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَعْرِفُ العَيْشَ عَلَى هَامِشِ الحَيَاةِ، كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الكَبِيرَةِ فِي مَيَادِينِ العَمَلِ لِهَذَا الدِّينِ!، وَالتَّارِيخُ يَزْخَرُ بِأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ اللهُ إِيمَانَهُمْ وَلَنْ يُضِيعُ يَوْمَ القِيَامَةِ سَعْيَهُمْ، فَذَا التَّارِيخُ يُحَدِّثُنا عَنْ نَمَاذِجَ مِنْ رِجَالِ السَّاقَةِ، مِنْهُمْ مَنْ عَرَفْنَاهُ، وَالأَكْثَرُونَ لَمْ نَعْرِفْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِي الوَاقِعِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ كَثِيرٌ.
لَمَّا حَاصَرَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حِصْنًا في بلاد الروم، وَأَصَابَهُمْ فِيهِ جَهْدٌ عَظِيمٌ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى نَقْبٍ مِنْهُ، فَمَا دَخَلَهُ أَحَدٌ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْجُنْدِ فَدَخَلَهُ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَنَادَى مُنَادِي مَسْلَمَةَ: أَيْنَ صَاحِبُ النَّقْبِ؟!، فَمَا جَاءَ أَحَدٌ حَتَّى نَادَى مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَجَاءَ فِي الرَّابِعَةِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَا أَيُّهَا الأَمِيرُ صَاحِبُ النَّقْبِ، آخُذُ عُهُودًا ثَلاثًا: لا تُسَوِّدُوا اسْمِي فِي صَحِيفَةٍ، وَلا تَأْمُرُوا لِي بِشَيْءٍ، وَلا تَشْغَلُونِي عَنْ أَمْرِي، قَالَ: فَقَالَ لَهُ مَسْلَمَةُ: قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِكَ، قَالَ: فَغَابَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يُرَ، قَالَ: فَكَانَ مَسْلَمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ فِي صَلاتِهِ: "اللَّهُمَّ احْشُرْنِي مَعَ صَاحِبِ النَّقْبِ يَوْمَ القِيَامَة!".
فَهَذَا الرَّجُلُ نَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَا نَعْرِفُ اسْمَهُ وَلَا رَسْمَهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْرِفُهُ، وَهَذَا يَكْفِيهِ وَاللهِ، وَهَذَا دَيْدَنُ رَجُلِ السَّاقَةِ وَدَأْبُهُ، هَذَا نَمُوذَجٌ لِرَجُلِ السَّاقَةِ الذِي يَعْمَلُ فِي مَكَانٍ لَا تَصِلُهُ لَوَاقِطُ الصَّوْتِ، وَلَا مَذَايِعُ الإِعْلامِ، وَلَا أَلْسِنَةُ المَادِحِينَ، بَلْ إِذَا اقْتَضَى الأَمْرُ أنْ يَعْمَلَ بِصَمْتٍ؛ عَمِلَ وَنَفْسُهُ تَتَدَفَّقُ سُرُوراً، وَقَدْ يَرْحَلُ بِصَمْتٍ، وَهُوَ يَتَذَكَّرُ كَلِمَةَ الفَارُوقِ عَنْ شُهَدَاءِ مَعْرَكَةِ نَهَاوَنْدَ: "لَا يَضُرُّهُمْ أَلَّا يَعْرِفُهُمْ عُمَرُ، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْرِفُهُمْ"، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "الذِي أَكْرَمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ يَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ".
وَخِتَامَاً:
رَجُلُ السَّاقَةِ لَهُ أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ، فَمَنْ وَجَدَهَا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مِنْهُمْ، فَهَنِيئَاً لَهُ:
- أَنْ يَسْتَوِيَ فِي نَفْسِهِ مَدْحُ النَّاسِ وَذَمُّهُمْ لَهُ.
- أَنْ يُقَدِّمَ مَصْلَحَةَ المُسْلِمِينَ وَمَنْفَعَتَهُمْ عَلَى مَصْلَحَتِهِ الخَاصَّةِ
- أَنْ يَكُونَ الأَصْلُ فِي عَمَلِهِ إِخْفَاءَهُ وَالإِسْرَارَ بِهِ.
- أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُخْلِصَ فِي كُلِّ عَمَلٍ أُوكِلَ لَهُ، لَا يَشْتَرِطُ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ
- أَنْ يَصُونَ قَلْبَهُ مِنَ الفِتَنِ، وَيَكُونَ مُرَاعِياً لِلْسَّلَامَةِ.
فَهَنِيئَاً لِمَنْ كَانَ مَجْهُولاً عِنْدَ الخَلْقِ مَعْرُوفاً عِنْدَ اللهِ، مَنْ لَا يَأبَهُ بِهِ الناسُ وَلَا يُقِيمُونَ لَهُ وَزْناً وَيَكُونُ قَدْرُهُ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا عِنْدَ اللهِ، مَنْ أُوصِدَتْ فِي وَجْهِهِ أَبْوَابُ الدُّنْيا وَأَبْوَابُ اللهِ مُشْرَعَةٌ فِي وَجْهِهِ، مَنْ كَانَ مُتَوَاضِعَاً مَعَ النَّاسِ شَرِيفاً عِنْدَ اللهِ.