شريط الأخبار

تجديد الفكر الإسلامي بين الجمود والجحود

د. يوسف علي فرحات – داعية إسلامي منذ 0 ثانية 3133

ينقسم الناس بشأن تجديد الفكر الإسلامي إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: خصوم التجديد، الذين يجمدون على الموروث، ويريدون أن يبقى كل قديم على قدمه، حكمتهم المأثورة: "ما ترك الأول للآخر شيئاً"، وشعارهم المرفوع: "ليس بالإمكان أبدع مما كان"، وهكذا فإن منهج هؤلاء يقوم على التقليد والمحافظة، والذي من أهم خصائصه الأمور التالية:

1. الاستغراق الكامل في النصوص، والوقوف بصفة خاصة عند الأحكام الفرعية التي تستخلص من هذه النصوص، والوقوف -فوق ذلك- عند ظواهر تلك النصوص، واعتبار ذلك من علامات الإتباع المحمود، الذي يقابل "الابتداع" المذموم، والتوقف عن البحث الطويل في حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأولويات المطالب الدينية للأفراد وللأمة، وعن النظر في إمكان تغير تلك الأولويات باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.

2. إساءة الظن بكل مذهب أو رأى أو اجتهاد يدعو إلى استخدام العقل والتعويل عليه في استنباط الأحكام الفقهية وتقرير الأمور الدينية، واعتبار هذا الاستخدام تهديداً لقدسية الشريعة، ومدخلا لتحكيم الهوى، وتمرداً على حكم الله الذي تقرره الآية القرآنية الكريمة: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم﴾ ]الأحزاب:36[، ويلخص أتباع هذا المنهج موقفهم من هذه القضية بقولهم: "إن الشريعة حاكمة لا محكومة"، وأن على المؤمنين بها أن يطبقوا أحكامها الكلية والجزئية ﴿ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ ]النساء:65[.

3. المبالغة في تقديس آراء علماء القرون الأولى من تاريخ الإسلام ومتابعة تلك الأقوال والآراء امتثالاً لما ورد به حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: »خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم« [رواه مسلم]، ولما اشتهر عنهم من الجمع بين العلم والعمل به، وبين المعرفة والتقوى، على نحو كانوا معه أئمة في العلم وقدوة للأمة في السلوك والعمل، وليس هذا فيما يرى أتباع تلك المدرسة حال المحدثين من العلماء والمشتغلين بالفقه، بل إن هؤلاء المحدثين -في نظر أتباع هذه المدرسة- مظنة الافتتان بحضارات الآخرين، والاستعداد العقلي والنفسي لتقبل آراء أولئك الآخرين، وتعريض خصوصية الإسلام، وثوابت عقيدته وشريعته لأخطار عظيمة.

4. المبالغة في رفض كل فكرة وافدة، والحذر الشديد من الأخذ بشيء مما عليه أتباع الحضارات الأخرى والانحصار بذلك في الإسلام التاريخي والإسلام الجغرافي، اعتقاداً بأن غير المسلمين متآمرون أبداً على الإسلام والمسلمين، وأن الإسلام متميز ومتفرد بخصائص ذاتية تنفى عنه مشابهة أي حضارة أخرى وأي نظام آخر عرفه الناس قديما أو يعرفونه حديثاً، وأن أي لقاء بين الإسلام وحضارته وبين عقيدة أو حضارة أخرى لا يمكن إلا أن يكون لقاء عابراً تعقبه مفارقة كاملة ويحكمه اختلاف أساسي؛ لأن التصور الإسلامي كله تصور متميز تماماً.

ونحن لا نخفى استدراكنا على كل المقولات المكونة لهذا المنهج، واعتقادنا بأنها تؤدى إلى انكماش الحضارة الإسلامية، وتراجع شأن المسلمين، كما أنها تلزم المؤمنين بما لم يلزمهم به الله، وتملأ حياتهم عسراً وحرجاً وحيرة، وهى أمور تنافي ثوابت كبرى من ثوابت المنهج الإسلامي السليم الذي تشهد له نصوص قطعية في كتاب الله وسُّنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كذلك لا نخفى أننا نعتبر اقتحام مصاعب التجديد بعد عصور طويلة من الجمود والانغلاق، سبيلاً وحيداً لنهضة الأمة وانبعاثها وتجدد دورها في زيادة المسيرة الإنسانية توجهاً إلى قيم الحق والعدل والرحمة والسلام [من مقال أ. د. أحمد كمال أبو المجد، تجديد الفكر الإسلامي في إطار جديد].

الصنف الثاني: وهم على نقيض الصنف الأول، فإذا كان الصنف الأول غالوا في تقديس كل ما هو قديم، فهؤلاء غالوا في التجديد إلى درجة أنهم يريدون أن ينسفوا كل قديم، وإن كان هو أساس هوية المجتمع ومبرر وجوده، وسر بقائه، ذلك هو تيار التغريب والحداثة الغربية، الذي نظر أهله، إلى الغرب فقط، فقلدوه وجمدوا على مقولات ثقافته وفلسفاته، كما نظر أهل الجمود التراثي، فقط إلى الماضي، فقلدوا مقولات سلف عصر تراجعنا الحضاري، وجمدوا عند ظواهر نصوصها.

فتجديد هؤلاء هو الدعوة لاقتباس ما عند الغرب بخيره وشره وحلوه ومره، وهؤلاء هم الذين سخر منهم مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- حين دخل معركته معهم "تحت راية القرآن" وقال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر، وردَّ عليهم شاعر الإسلام محمد إقبال بأن "الكعبة لا تُجدد بجلب حجارة لها من أوربا"، وأشار إليهم أحمد شوقي في قصيدته عن الأزهر:

ولو استطاعوا في المجامع أنكروا      من مات من آبائهم أو عمّراً

مـن كل ساع في القديم وهد       مـه وإذا تقدم للبناية قصراً

وهذا الصنف والذي قبله هما اللذان شكا منهما الأمير شكيب أرسلان حين قال: "إنما ضاع الدين بين جامد وجاحد، ذلك ينفر الناس منه بجموده، وهذا يضلهم عنه بجحوده" [القرضاوي، حول قضايا الإسلام والعصر ص 84].

وبين هذين الصنفين يبرز صنف وسط، يرفض جمود الأولين وجحود الآخرين، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، ويقبل التجديد، بل يدعو إليه وينادي به، على أن يكون تجديداً في ظل الأصالة الإسلامية هذا التيار، هو تيار الإحياء لأصول الإسلام وثوابته، بالعودة إلى المنابع الجوهرية والنقية لهذا الدين الحنيف، والنظر فيها بعقل معاصر، يفقه أحكامها، كما يفقه الواقع الذي يعيش فيه، ففي هذا التيار -الإحيائي والتجديدي- تتوازن "الثوابت" الدائمة الثبات، والضامنة دوام إسلامية النسق الفكري على امتداد الزمان والمكان مع "التجديد" في الفروع التي تطرحها متغيرات الواقع ومستجداته، الأمر الذي ينفى القطيعة "قطيعة للجديد والتجديد" مع "الثوابت والثبات"، كما ينفى "الجمود والتقليد"، وهكذا فإن أصحاب هذا التيار يرون أن التجديد ضرورة دينية لحفظ الدين، لأن الحياة ليست جامدة، وبالمثل يجب أن نفهم أن الدين الذي ينبغي أن يحكمها ليس جامداً، وبدون التجديد يقع خلط الصواب بالخطأ والحق بالباطل والعلم بالخرافة.

وإذا وقع مثل هذا الخلط فلا غرابة أن يصبح الدين أفيوناً، ولا نقصد بالخلط عدم تمييز الصواب والحق والعلم من الخطأ والباطل والخرافة، وإنما يقع في أوهام الناس نتيجة الإرث الطويل فيصبح التدين مجرد تقليد السابقين ويصدق فيهم قول الله تعالى على لسان الكافرين تقليداً: ﴿قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون﴾ [الشعراء:74]، نقصد بالخلط المفسد اعتبار ما يقع من اجتهادات العلماء الفضلاء ديناً لا يقبل الرد، لأن كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه، ولو كان صحابياً جليلاً.

انظر آراء الصحابة الكرام، خالفهم فيها صحابة آخرون وهذا كثير، ثم انظر ما قاله ابن تيمية -رحمه الله-: "فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين ومن بعدهم إلا خفي عليه وجه السنة في الأدلة الشرعية، أو غابت عنه الأدلة أصلاً في بعض المسائل" [عبد الحليم أبو شقة، نقد العقل المسلم ص 175].

مقالات مشابهة

تجديد الفكر الإسلامي بين الجمود والجحود

منذ 0 ثانية

د. يوسف علي فرحات – داعية إسلامي

أسباب مرض القلب وقسوته

منذ 19 دقيقة

د. يوسف علي فرحات – داعية إسلامي

الوسطية والاعتدال

منذ 25 دقيقة

د. يوسف علي فرحات – داعية إسلامي

الوسائط

هدفنا الارتقاء بأداء العاملين في إدارة المساجد وتطوير الأنشطة المسجديةإقرء المزيد عنا

كُن على تواصل !!

آخر الأخبار

تجديد الفكر الإسلامي بين الجمود والجحود

منذ 0 ثانية3133
الاستيعاب في الدعوة والداعية

منذ 24 ثانية4735
المحمولون على طريق الدعوة

منذ 56 ثانية3186
Masjedna © Copyright 2019, All Rights Reserved Design and development by: Ibraheem Abd ElHadi