
لَمْ يَكُنِ المَسْجِدُ الأَقْصَى المُبَارَكُ وَالمَدِينَةُ المُقَدَّسَةُ بِقَاعًا كَغَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ الأَرْضِ، فَالْأَقْصَى قِبْلَةُ المُسْلِمِينَ الأُولَى، وَهُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالى فِي الأَرْضِ بَعْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ ثَالِثُ المَسَاجِدِ التِي تُشَدُّ إِلَيْها الرِّحَالُ، وَأَرْضُهُ أَرْضُ المَحْشَرِ وَالمَنْشَرِ، وَهِيَ الأَرْضُ المُقَدَّسَةُ التِي بَارَكَ اللهُ تَعَالى فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، مُنْتَهَى الإِسْرَاءِ، وَبِدَايَةُ المِعْرَاجِ، مَهْبِطُ الرِّسَالَاتِ، وَمَهْوَى أَفْئِدَةِ الأَنْبِيَاءِ، بَرَكَةُ الشَّامِ بِبَرَكَتِهَا، قَالَ تَعَالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإِسْرَاء:1]، قَالَ المِنْهَاجِيُّ الأَسْيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ "إِتْحَافُ الأَخِصَّا بِفَضَائِلِ المَسْجِدِ الأَقْصَى": فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِبَيْتِ المَقْدِسِ مِنَ الفَضِيلَةِ غَيْرُ هَذِهِ الآيَةِ لَكَانَتْ كَافِيةً، وَبِجَمِيعِ البَرَكَاتِ وَافِيَةً؛ لِأَنَّهُ إِذَا بُورِكَ حَوْلَهُ فَالْبَرَكَةُ فِيهِ مُضَاعَفَةٌ، وِلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْرُجَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى سَمَائِهِ جَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَيْهِ تِبْيَانًا لِفَضْلِهِ، وَلِيَجْعَلَ لَهُ فَضْلَ البَيْتَيْنِ وَشَرَفَهُمَا، وَإِلَّا فَالْطَّرِيقُ مِنَ البَيْتِ الحَرَامِ إِلَى السَّمَاءِ كَالْطَّرِيقِ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ إِلَيْهَا.
وَفِي الأَقْصَى وَأَكْنَافِهِ تُرَابِطُ الطَّائِفَةُ المَنْصُورَةُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ التِي جَاءَ الحَدِيثُ بِذِكْرِهَا، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» [رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ].
وَفِي الحَدِيثِ بُشْرَى لِأَهْلِ الشَّامِ، وَفِي دُرَّتِهِمْ أَهْلُ فِلَسْطِينَ، خَاصَّةً وَفِي القَلْبِ مِنْهُمْ أَهْلُ المَدِينَةِ المُقَدَّسَةِ؛ أَنَّهُمُ الطَّائِفَةُ المُعَيَّنَةُ بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، الذِينَ لَا تَضُرُّهُمْ شِدَّةُ عَدَاوَةِ عَدُوِّهِمْ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، وَلَا يُقْعِدُهُمْ عَنِ الجِهَادِ تَخَاذُلُ بَعْضِ المُسْلِمِينَ عَنْ نُصْرَتِهِمْ.
فَهُمُ امْتِدَادٌ لِصَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالتَّابِعِينَ وَالصَّالِحِينَ، وَهُمْ أَهْلُ الرِّبَاطِ وَالمُرَابَطَةِ، وَالصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ، وَالجِهَادِ وَالمُجَاهَدَةِ، كَيْفَ لَا؟ وَهُمْ يَتَحَدَّوْنَ أَعْدَاءَ اللهِ مِنَ اليَهُودِ المُحْتَلِّينَ وَمَنْ شَايَعَهُمْ لَيْلَ نَهَارَ، وَيَقِفُونَ مِنَ المُقَدَّسَاتِ مَوْقِفَ الحَارِسِ الأَمِينِ، وَسْطَ غُيُومِ الظُّلْمِ وَالقَهْرِ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَالخُذْلَانِ مِنَ الأَقْرَبِينَ، فِلِلهِ دَرُّكُمْ يَا أَهْلَ فِلَسْطِينَ، يَا أَهْلَ القُدْسِ الشَّرِيفِ وَأَنْتُمْ تَنُوبُونَ عَنِ الأُمَّةِ كُلِّهَا فِي حِرَاسَةِ أَقْصَاهَا، فَتُحْيُونَ الأَمَلَ الكَبِيرَ فِي نُفُوسِ المُسْلِمِينَ أَنَّ الاحْتِلَالَ إِلَى زَوَالٍ، وَأَنَّ إِجْرَاءَاتِهِ العُدْوَانِيَّةَ تُجَاهَ المَسْجِدِ الأَقْصَى المُبَارَكِ لَنْ تُغَيِّرَ حَقِيقَةَ مِلْكِيَّتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، وَاسْتَشْرَى العُدْوَانُ، كَيْفَ لا؟؛ وَقَدْ تَحَدَّيْتُمُوهُ وَوَاجَهْتُمُوهُ فَانْتَصَرَ كَفُّكُمْ عَلَى مِخْرَزِهِ، وَتَفَوَّقَتْ إِرَادَتُكُمْ عَلَى عَنْجَهِيَّتِهِ، فَتَرَاجَعَ عَنْ مُخَطَّطِهِ الخَبِيثِ، وَدَخَلْتُمُ المَسْجِدَ الأَقْصَى مُكَبِّرِينَ اللهَ وَمُهَلِّلِينَ، تُعْلِنُونَ إِسَاءَةَ وُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمُ الصَّاغِرُونَ الأَرْذَلُونَ الذِينَ بَاؤُوا بِذُلٍّ وَصَغَارٍ، وَنَحْنُ اليَوْمَ أَكْثَرُ يَقِينًا بِاللهِ تَعَالى أَنَّ المَرْحَلَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ مَرَاحِلِ هَزِيمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ اقْتَرَبَتْ؛ وَهِيَ مَرْحَلَةُ دُخُولِنَا المَسْجِدَ الأَقْصَى مُحَرِّرِينَ فَاتِحِينَ، لِتَتْبَعَهَا المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ؛ وَهِيَ مَرْحَلَةُ تَتْبِيرِ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا، قَالَ تَعَالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإِسْرَاء:7].