
قَرَّرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عِيرِ قُرَيْشٍ؛ لِيَسْتَعِيضَ بِهِ عَنِ الأَمْوَالِ التِي نَهَبَهَا مِنْهُمُ المُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ، حَيْثُ أُجْبِرَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَرْكِ مَكَّةَ التِي كَانَتْ ظَالِمَةً بِأَهْلِهَا، فَأَخْرَجَهُمْ أَهْلُهَا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ.
وَمَا إِنْ سَمِعَ الصَّحَابَةُ مِنَ المُهَاجِرِينَ خَاصَّةً ثُمَّ الأَنْصَارُ بِقَرَارِ الذَّهَابِ إِلَى اسْتِلَابِ عِيرِ قُرَيْشٍ حَتَّى قَامُوا قَوْمَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَالأَمْرُ جِدٌّ وَلَيْسَ بِالْهَزْلِ، وَقَدْ آنَ الأَوَانُ أَنْ يَسْتَعِيدَ المُهَاجِرُونَ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِمْ، وَسَيُحَاسِبُ اللهُ قُرَيْشًا وَمَنْ مَعَهَا عَلَى البَاقِي، وَهَا هُوَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَرِّضُهُمْ قَائِلًا: »هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَافِلَا بِتِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فَاخْرُجُوا لَهَا، لَعَلَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يُنَفِّلُكُمُوهَا« [رواه الطبري].
فَنَهَضَ الصَّحَابَةُ لِيَسْتَعِيدُوا شَيْئًا مِمّا أُخِذَ مِنْهُمْ كُرْهًا بِلَا وَجْهِ حَقٍّ، فَقَدْ عَدَا المُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ فَسَرَقُوهَا، وَمَا أَبْقَوا فِيهَا شَيْئًا، وَعَاثُوا فِي مُمْتَلَكَاتِ المُهَاجِرِينَ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ وَكَأَنَّهُمُ المُلَّاكُ، وَأُخْرِجَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْ بِلَادِهِمْ وَهُجِّرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَوَقَعَ أَجْرُهُمْ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى-، قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحَشْر:8].
وَلَكِنْ!
حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ بِالْحُسْبَانِ، حَيْثُ فَلَّتِ القَافِلَةُ إِلَى مَكَّةَ وَنَجَتْ بِحِنْكَةِ أَبِي سُفْيَانَ وَفِطْنَتِهِ، إِذْ إِنَّ قُرَيْشًا مَا كَانَتْ لِتُرْسِلَ خَالِصَ أَمْوَالِهَا مَعَ رَجُلٍ عَادِيٍّ، فَالمَالُ يُعَادِلُ الرُّوحَ، وَهَذِهِ القَافِلَةُ هِيَ الأُوْلَى بَعْدَ انْقِطَاعِ كَثِيرٍ مِنْ سُبُلِ التِّجَارَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، الذِي حَدَثَ أَنَّهُ بَعْدَ تَغَيُّرِ خَطِّ سَيْرِ الْقَافِلَةِ وَاسْتِطَاعَةِ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ يُنْجِيَهَا مِنْ أَيْدِي المُؤْمِنِينَ، قَالَ المُشْرِكُونَ أَصْحَابُ القَافِلَةِ بِكُلِّ كِبْرٍ وَغَطْرَسَةٍ: "أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، كَلَّا وَاَللَّهِ لِيَعْلَمُنَّ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ"، فَخَرَجُوا لِمُقَابَلَةِ الْمُسْلِمِينَ لِيُتْبِعُوا إِخْرَاجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَقَالُوا لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ نَصَحَهُمْ بِعَدَمِ القُدُومِ لِلْمَدِينَةِ: "وَاَللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَنُسْقِي الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا، فَامْضُوا".
فَوَصَلَ الخَبَرُ لِسَيِّدِ البَشَرِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ القَوْمَ خَرَجُوا الآنَ لِقِتَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُبَلَّغَ النَّاسُ بِهَذَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا لِقِتَالٍ أَوَّلَ الأَمْرِ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا لِاغْتِنَامِ العِيرِ وَاسْتِلَابِ القَافِلَةِ، وَالأَمْرُ الآنَ قَدِ اخْتَلَفَ، فَمَا عَادَتِ القَضِيَّةُ مَحْصُورَةً فِي قَافِلَةٍ وَعِيرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، الذِي سَيُسْفَكُ فِيهِ الدَّمُ وَتُزْهَقُ فِيهِ الأَرْوَاحُ، وَالأَمْرُ لَيْسَ قَافِلَةً وَلَا عِيرًا، وَإِنَّمَا الجِهَادُ وَالاسْتِشْهَادُ، وَالتَّضْحِيَةُ وَالفِدَاءُ، وَالإِقْدَامُ وَالقِتَالُ وَعَدَمُ الإِحْجَامِ.
فَمَا كَانَ مِنْ بَعْضِ المُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ جَادَلُوا، ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأنفال:6]، فَقَدْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، نَعَمْ أَرَادُوا العِيرَ وَحَسْبُ، وَلَكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَرَادَ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ، فَرِزْقُ المُؤْمِنِينَ المُجَاهِدِينَ تَحْتَ ظِلَالِ حِرَابِهِمْ، وَغَنَائِمُهُمْ وَرَاءَ بَرِيقِ سُيُوفِهِمْ، وَمَعَ أَصْوَاتِ المَدَافِعِ وَإِطْلَاقِ الصَّوَارِيخِ تَنْزِلُ البَرَكَةُ مِنَ السَّمَاءِ وَيَنْبُعُ الخَيْرُ مِنَ الأَرْضِ، فَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: »جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي« [رواه البخاري].
وَوَقَعَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، وَانْطَلَقَ الصَّحَابَةُ إِلَى بَدْرٍ، وَصَارَتْ بَدْرٌ فُرْقَانًا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، فَرَزَقَهُمُ اللهُ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَخَيْرًا كَثِيرًا، وَغَنَائِمَ وَأَسْلِحَةً وَأَسْرَى وَأَمْوَالًا وَمَوَاشِيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذَا بِبَرَكَةِ الجِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالخَيْرِ.
وَخِتَــــامًا:
نَحْنُ لَسْنَا عُشَّاقًا لِسَفْكِ دِمَائِنَا وَلَا دِمَاءِ غَيْرِنَا، وَلَا نَتَطَلَّعُ لِفَنَاءِ حَيَاتِنَا وَلَا فَنَاءِ حَيَاةِ غَيْرِنِا، لَكِنَّا قَوْمٌ شُرَفَاءُ كِرَامٌ أُبَاةٌ لَا نَرْضَى الضَّيْمَ وَلَا نَقْبَلُ الذُّلَّ، فَمَنْ دَاسَ لَنَا عَلَى طَرَفٍ دُسْنَا عَلَى رَأْسِهِ، وَمَنِ اقْتَرَبَ مِنْ حِمَانَا أَرْسَلْنَاهُ إِلَى جَهَنَّمَ، فَقَتْلَاهُمُ فِي النَّارِ وَشُهَدَاؤُنَا فِي الجَنَّةِ، وَاللهُ مَوْلَانَا وَلاَ مَوْلَى لَهُمْ، وَالأَيَّامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا حَتَّى نُحَرِّرَ ثَرَى مَدِينَةِ القُدْسِ مِنْ دَنَسِ المُحْتَلِّينَ، فَالجِهَادُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ.