
هَذِهِ العِبَارَةُ سَمِعْنَاهَا كَثِيرًا تَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا مِنَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ؛ وَمَا هِيَ كَذَلِكَ أَبَدًا، بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ اشْتَهَرَتْ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَلَهَا نَصِيبٌ مِنَ الصِّحَّةِ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ جِدًّا، إِذِ الوَاقِعُ يُصَدِّقُهَا وَالشَّوَاهِدُ تَدْعَمُهَا.
فَكَمْ مِنْ حَاكِمٍ أَوْدَى بِأَحْلَامِ شَعْبِهِ، وَأَوْرَدَ قَوْمَهُ المَهَالِكَ، وَسَعَى فِي الأَرْضِ ليُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَأَمْسَكَ بِزِمَامِ أَرْزَاقِ العِبَادِ فَسَارَ النَّاسُ -أَكْثَرُهُمْ- فِي فَلَكِهِ، وَدَانُوا بِدِينِهِ وَقَدَّسُوا مُعْتَقَدَهُ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.
وَكَمْ مِنْ حَاكِمٍ تَقَلَّدَ الحُكْمَ فَسَارَ بَيْنَ النَّاسِ بِالسَّوِيَّةِ، وَعَدَلَ بَيْنَهُمْ فِي العَطِيَّةِ، وَمَلَأَ الأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مَلَأَهَا غَيْرُهُ ظُلْمًا وَجَوْرًا، وَذَاعَ صِيتُهُ فِي الآفَاقِ حَتَّى أَمْسَكَ النَّاسُ عَنِ التّجَاوُزَاتِ، وَأَقْلَعُوا عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَقَامُوا بِالْوَاجِبَاتِ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
وَهَذَا يُعْظِمُ المَسْؤُولِيَّةَ فِي رِقَابِ مَنْ تَبَوَّءَ أَمْرَ النَّاسِ، وَصَارَ لَهُمْ حَاكِمًا مُطَاعًا، يَأْمُرُ وَيَنْهَى فَلَا يَجِدُ إِلَّا مُطِيعًا، يُقَرِّرُ وَيَنْشُرُ فَلَا يَجِدُ إِلَّا مُسْتَسْلِمًا، وَالْوَيْلُ كُلُّ الوَيْلِ لِمَنْ عَصَى الأَمْرَ أَوْ تَجَاوَزَ النَّهْيَ؛ فَمَا ثَمَّ إِلَّا العِقَابُ، فَاللَّوْمُ عَلَى مَنْ أَسَاءَ الأَدَبَ، وَالعُقُوبَةُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الطَّلَبِ.
وَفِي القُرْآنِ الكَرِيمِ ضَرَبَ اللهُ لَنَا نَمُوْذَجَيْنِ لِلْأَئِمَّةِ بَيْنَ النَّاسِ:
1. أَئِمَّةٌ يَهْتَدُونَ بِالْخَيْرِ وَبِهِ يَعْمَلُونَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَدْعُونَ إِلَى الهُدَى، يَسِيرُونَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَلَا يُحَابُونَ أَقَارِبَهُمْ وَلَا يَعْبَأُونَ بِمُبْغِضِيهِمْ، غَايَتُهُمْ أَنْ يُحَقَّقَ العَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، لَا يَرْتَعُونَ فِي المُبَاحِ خَشْيَةَ أَنْ يَلِجَ النَّاسُ فِي المَكْرُوهِ، يَصُونُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الحَرَامِ خَوْفًا مِنَ انْحِرَافِ النَّاسِ إِلَى الكُفْرِ وَالانْحِلَالِ، أَقَامُوا الحَقَّ وَالعَدْلَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمَا أَغْلَقُوا البَابَ دُونَ رَعِيَّتِهِمْ، فَأَخَذَ اللهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَطَاعَتْهُمْ رَعِيَّتُهُمْ، وَدَعَوْا لَهُمْ فِي صَلَوَاتِهِمْ وَدَعَوَاتِهِمْ، وَقَدَّمُوهُمْ عَلَى أَنْفِسِهِمْ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأَنْبِياء:73].
فَإِنْ تَوَلَّى عَلَى النَّاسِ رَجُلٌ صَالِحٌ، آخِذٌ بِمَعَاقِدِ الإِصْلَاحِ وَالتَّغْيِيرِ، سَائِرٌ بَيْنَ النَّاسِ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، مُعِيدٌ لِسِيرَةِ الأَوَائِلِ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ.. رَأَيْتَ النَّاسَ يَسِيرُونَ عَلَى هَوَاهُ، فَالْمَسَاجِدُ تَمْتَلِئُ، وَحَلَقَاتُ تَحْفِيظِ القُرْآنِ تَكْتَظُّ بِالْمُقْبِلِينَ عَلَيْهَا، وَمَوَائِدُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ تَنْتَشِرُ عَبْرَ العُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الحَدِيثِ، وَرَأَيْتَ الشَّوَارِعَ وَهِيَ مُنْضَبِطَةٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يَسُودُ بَيْنَ النَّاسِ الحَقُّ وَالْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، لَا بَغْيَ وَلَا عَدَاوَةَ وَلا اسْتِضْعَافَ وَلَا اعْتِدَاءَ.
2. وَأَئِمَّةٌ تَحَكَّمُوا فِي رِقَابِ الْعِبَادِ فَأَوْرَثُوهُمُ الذُّلَّ وَالاسْتِعْبَادَ، فَمَا أَنْ يَتَوَلَّى الوَاحِدُ تَرَاهُ لَا يَرْقُبُ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، أَزْهَقُوا الأَرْوَاحَ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، نَهَبُوا الثَّرْوَاتِ وَسَرَقُوا الْخَيْرَاتِ، وَسَامُوا أَبْنَاءَ شَعْبِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ، لَا يَخَافُونَ اللهَ وَلَا يَذْكُرُونَ الآخِرَةَ، وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِيَوْمِ القِيَامَةِ، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ وَيَنْسَوْنَ اللهَ فَنَسِيَهُمْ، وَحُقَّ فِيهِمْ قَوْلُ اللهِ تَعَالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [القَصَص:41].
إِنْ تَوَلَّى عَلَيْهِمُ الدَّيُّوثُ رَأَيْتَ القَنَوَاتِ التِّلِفَازِيَّةَ فِي دَوْلَتِهِ تَنْشُرُ الفُحْشَ وَالعُرِيَّ، وَتُتَاجِرُ بِأَجْسَادِ نِسَاءِ قَوْمِهِ، وَهُوَ الذِي يُفْتَرَضُ أَنْ يَكُونَ صَائِنَ أَعْرَاضِهِنَّ، وَإِنْ وُلِّيَ عَلَيْهِمُ المُنَافِقُ العَمِيلُ رَأَيْتَهُ يَفْتَحُ أَرْضَهُ لِكُلِّ مَنْ عَادَى مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ، فَمَنْ حَادَ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنِ الْحَالِ, مَالَ وَأَمَالَ.
فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالى أَنْ يُيَسِّرَ لَنَا حَاكِمًا رَبَّانِيًّا يَأْتَمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَأْمُرُنَا، وَيَنْتَهِي عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَانَا، يَقُودُنَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَفْقَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.