
فِي مِثْلِ الظُّرُوفِ التِي يَحْيَاها شَعْبُنا الفِلَسْطِينِيُّ المُجَاهِدُ مِنَ الحِصَارِ وَالكَرْبِ وَالضِّيقِ؛ رُبَّما يَتَسَرَّبُ لِبَعْضِ النُّفُوسِ اليَأْسُ وَالإِحْبَاطُ مِنَ الحَيَاةِ، فَلا يَرَى فِي الحَيَاةِ سِوَى سَلْبِيَّاتِهَا، فَيَقَعُ فِي القُنُوطِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَقَدْ وَصَلَ الحَالُ بِبَعْضِ النَّاسِ لِلانْتِحَارِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، وَقَدْ نَهَانا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالى- عَنِ اليَأْسِ، فَقَالَ تَعَالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يُوسُف:87].
وَالأَصْلُ فِي الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الصَّبْرُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ ابْتُلِيَ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَمَا ابْتُلِيَ حَبِيبُنَا المُصْطَفَى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي زَمَانِهِ، فَقَد اتَّهَمَهُ قَوْمُهُ بِالسِّحْرِ وَالكَهَانَةِ وَالجُنُونِ، وَقَدْ فَقَدَ أَبْنَاءَهُ وَبَناتَهُ جَمِيعَاً فِي حَيَاتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا عَدَا فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَاتَّهَمَهُ المُنَافِقُونَ فِي عِرْضِهِ الطَّاهِرِ الشَّرِيفِ فِي أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، وَكَانَ لَا تُوْقَدُ النَّارُ فِي بَيْتِهِ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَكَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الخَنْدَقِ يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ بَدَلاً مِنَ الحُجْزَةِ حُجْزَتَيْنِ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَّخِذَهُ خَيْرَ أُسْوَةٍ.
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْجِبُهُ الفَأْلُ الصَّالِحُ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ»، قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» [أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ]، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَأُحِبُّ الفَأْلَ الصَّالِحَ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَفَاءَلُ وَلا يَتَطَيَّرُ، وَيُعْجِبُهُ الاسْمُ الْحَسَنُ" [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَالَ الأَرْنَاؤُوطُ: حَسَنٌ لِغَيْرِهِ].
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَفَائِلاً فِي أَشَدِّ الأَوْقَاتِ ابْتِلاءً وَكَرْباً وَضِيقَاً، فَعِنْدَمَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجَ دَاعِيَاً وَمُبَلِّغَاً رِسَالاتِ رَبِّهِ لِأَهْلِ الطَّائِفِ، فَإِذَا بِأَهْلِ الطَّائِفِ قَدْ سَلَّطُوا عَلَيْهِ صِغَارَهُمْ وَجُهَّالَهُمْ يَرْجُمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَإِذَا بِأَقْدَامِ الحَبِيبِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَنْزِفُ دَمَاً، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ اللهُ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَى مَلَكُ الجِبَالِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَنِي لِآتَمِرَ بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ؛ إِنْ شِئْتَ أَنْ أَطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، أَيْ جَبَلا مَكَّةَ: جَبَلَ أَبِي قبيس وَالجَبَلَ الذِي يُقَابِلُهُ".
فَمَاذَا أَجَابَهُ الحَبِيبُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُغْمَ الأَذَى وَالجِرَاحِ النَّازِفَةِ؟! أَجَابَهُ بِكُلِّ ثِقَةٍ وَتَفَاؤُلٍ بِنَصْرِ اللهِ، فقَالَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ صَبْرِهِ وَتفَاؤُلِهِ خَيْرَاً كَمَا سَتَكُونُ عَاقِبَةُ صَبْرِنَا وَتَفَاؤُلِنَا خَيْرَاً بِإِذْنِ اللهِ، فَأَخْرَجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، فَحَمَلُوا إِلَيْنا الدِّينَ بِأَرْوَاحِهِمْ وَدِمَائِهِمْ حَتَّى أَتَوْا بِهِ إِلَى هَذِهِ الأَرْضِ الطَّاهِرَةِ المُقَدَّسَةِ.
فَيَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مُتَفَائِلاً، وَأَنْ يَصْبِرَ وَيُحْسِنَ الظَّنَّ بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَصَحَّحَهُ الأَرْنَاؤُوطُ]، وَهَذِهِ الظُّرُوفُ التِي يَحْيَاها مُجْتَمَعُنا تَكْشِفُ عَنْ مَعَادِن النَّاسِ، وَالمُؤْمِنُ مَعْدَنُهُ نَقِيٌّ صَافٍ كَالذَّهَبِ كُلَّمَا اشْتَدَّ فِتْنَةً زَادَ تَأَلُّقاً وَبَرِيقًا وَلَمَعَاناً، فَهَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيا دَارُ ابْتِلَاءٍ، وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَالصَّبْرَ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ الثَّبَاتَ، وِلِنُحْسِنِ الظَّنَّ بِاللهِ لِنَنَالَ كُلَّ خَيْرٍ بِإِذْنِ اللهِ.