
قَالَ تَعَالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأَنْفَال:27]، فَمَا أَعْظَمَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُجَسِّدُ فِينَا مَعَانِيَ الأُسْوَةِ الرَّائِدَةِ، وَمَا أَعْظَمَ أَخْلَاقَهُ التِي تُلْقِي بِظِلَالِهَا عَلَى أَحْوَالِنَا، فَتَعِيشُ فِينَا وَاقِعاً فِي كُلِّ مَنَاحِي حَيَاتِنَا، لِتَأْخُذَنَا إِلَى حَيْثُ صَلَاحُنَا وَنَجَاحُنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنَّ مِنْ طَيِّبِ خِصَالِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ كَاتِماً لِلْسِّرِّ حَيْثُ اقْتَضَى الأَمْرُ، فَكِتْمَانُ السِّرِّ مِنَ الأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ التِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا ذَوُو الشَّهَامَةِ وَالمُرُوءَةِ، وَكَمْ مِنَ النُّفُوسِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ!.
لَقَدْ لُقِّبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالأَمِينِ حَتَّى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَكَانَ مِثَالاً يُحْتَذَى بِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ إِظْهَارَ السِّرِّ كَإِظْهَارِ العَوْرَةِ، فَكَمَا يَحْرُمُ كَشْفُهَا يَحْرُمُ إِفْشَاؤُهُ، وَإِنَّ احْتِفَاظَ المُسْلِمِ بِالسِّرِّ دَلِيلٌ عَلَى أَمَانَتِهِ، مِمَّا يَجْعَلُ النَّاسَ يَثِقُونَ بِهِ، وَيَسْعَوْنَ إِلَى صَدَاقَتِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِنَ الذِينَ يُفْشُونَ الأَسْرَارَ، فَإِنَّ النَّاسَ سَيَكْرَهُونَهُ وَلَنْ يَثِقُوا بِهِ، وَقَدَ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» [رَوَاهُ الشَّيْخَانِ]، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ؛ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى المَرْأَةِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ كِتْمَانَ السِّرِّ وَاجِبٌ وَإِفْشَاءَهُ حَرَامٌ، وَيَزْدَادُ الأَمْرُ حُرْمَةً وَالإِفْشَاءُ خُطُورَةً إِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ أَضْرَارٌ وَأَشْرَارٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى صَاحِبِ السِّرِّ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ وَيَتَحَتَّمُ كَتْمُ السِّرِّ وَعَدَمُ إِفْشَائِهِ.
وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يُحَاطَ بِالسِّرِّ وَالكِتْمَانِ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: المَعَاصِي لِمَنْ سَتَرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَا يَجُوزُ المُجَاهَرَةُ بِذَلِكَ.
ثَانِيًا: أَخْبَارُ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى، فَيَحْرُمُ نَقْلُها وَكَشْفُ أَسْرَارِ المُجَاهِدِينَ، وَأَمَاكِنِ تَوَاجُدِهِمْ وَرِبَاطِهِمْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ لِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ.
ثَالِثًا: مَا يَدُورُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَيَاتِهِمُ الخَاصَّةِ، فَلَا يَجُوزُ إِفْشَاؤُهُ لِلْآخَرِينَ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَقْرَبِ الأَقْرَبِينَ.
رَابِعًا: النَّهْيُ عَنْ وَصْفِ امْرَأَةٍ مَحَاسِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى لِزَوْجِهَا أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ.
خَامِسًا: تَحْرِيمُ كَشْفِ سِرِّ المِهْنَةِ وَشُؤُونِ التِّجَارَةِ لِلْأُجَرَاءِ وَالوُكَلَاءِ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ.
سَادِسًا: لَا يَحِلُّ لِلْطَّبِيبِ أَنْ يَكْشِفَ العَاهَاتِ وَالأَمْرَاضَ التِي يُسْرُّ لَهُ بِهَا بَعْضُ المَرْضَى.
سَابِعًا: لَا يَجُوزُ كَشْفُ أَسْرَارِ البُيُوتِ.
ثَامِنًا: لَا يَجُوزُ كَشْفُ عَوْرَاتِ المُسْلِمِينَ عُمُومًا.
وَمِمَّا يَنْبَغِي إِظْهَارُهُ، وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ مَا يَلِي:
أَوَّلًا: العِلْمُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ؛ أَلْجَمَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَّارٍ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ].
ثَانِيًا: الشَّهَادَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ﴾ [البَقَرة:140]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الْشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة:283].
ثَالِثًا: حَقِيقَةُ السِّلْعَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ: لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» [رَوَاهُ الشَّيْخَانِ].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لِنَكْتُمْ أَسْرَارَنَا، وَأَسْرَارَ المُسْلِمِينَ، وَلَا نُبِحْ مَا لَا يَجُوزُ لَنَا بَيَانُهُ، وَلْنَتَّقِ اللهَ تَعَالَى فِي أَنْفُسِنَا وَفِي إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ، فَكُلُّنَا عَلَى ثَغْرٍ عَظِيمٍ، فَلْنُحَافِظْ عَلَيْهِ!.