
لَعَلَّ النَّاظِرَ نَظْرَةً أَوَّلِيَّةً يَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ تَنَاقُضًا بَيْنَ شِقَّيِّ العُنْوَانِ، خَاصَّةً فِيمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا عَنْ أَنَّ المَعَاصِيَ سَبَبُهَا الشَّهْوَةُ، بَلْ يَرَى البَعْضُ أَنَّ نُزُولَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى الأَرْضِ بِسَبَبِ شَهْوَتِهِ، وَتَعَدَّى الأَمْرُ مِنَ المَعَاصِي إِلَى الجَرَائِمِ وَالقَتْلِ وَالتَّدْمِيرِ لِتَحْقِيقِ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، فَأَيْنَ التَّعْمِيرُ فِي ذَلِكَ؟
إِنَّ المُتَأَمِّلَ فِي خَلْقِ اللهِ النَّاسَ يَجِدُ أَنَّهُ قَدْ أَمَدَّنَا بِالشَّهَوَاتِ، وَبَيَّنَ لَنَا الاسْتِخْدَامَ الأَمْثَلَ لَهَا فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ، فَلَوْلَا شَهْوَةُ حُبِّ المَالِ، كَمَا قالَ تَعَالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر:20]، لَمَا كَانَ العَمَلُ وَالتَّكَاثُفُ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ الأَرْبَاحِ، وَمَا كَانَ الاقْتِصَادُ، وَمَا نَتَجَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ عُلُومٍ، وَمَا كَانَتِ الرِّحْلَاتُ الإِيلَافِيَّةُ التِي تَدْعُونَا أَنْ نَنْظُرَ فِي آيَاتِ اللهِ وَنَعْبُدَهُ إِذْ حَقَّقَ لَنَا المَطْعَمَ وَالأَمْنَ، وَقَدْ تَعَدَّى الأَمْرُ فِي المَال ِإِلَى الطَّمَعِ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ فَتَحَرَّكَ الجَمِيعُ لِيَجْمَعُوا منه مَا اسْتَطَاعُوا، وَإِلَى البُخْلِ كَذَلِكَ إِذْ جَعَلَ الادِّخَارَ وَسِيلَةً لِلْتَّوْرِيثِ، رُغْمَ مَا فِيهِمَا مِنْ آثَارٍ سَلْبِيَّةٍ، وَفِي المَالِ صَدَقَةٌ وَتَدَاوُلٌ بَيْنَ النَّاسِ.
وَلَوْلَا شَهْوَةُ الجِنْسِ لَمَا كَانَ الزَّوَاجُ وَالتَّكَاثُرُ وَالاسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ وَالتَّعَارُفُ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَد انْقَرَضَ الإِنْسَانُ لِعَدَمِ انْجِذَابِهِ لِلْآخَرِ، بَلْ قَدْ تَعَدَّتِ الشَّهْوَةُ لِتَرَى مَا فِي الغَرِيبِ أَكْثَرَ انْجِذَابًا مِمَّا بَيْنَ أَيْدِينَا، فَتَنْتَهِي عُقْدَةُ العَصَبِيَّةِ وَيَكُونُ النَّسَبُ وَالصِّهْرُ فِي فَضَاءِ الحَيَاةِ التَّعَارُفِيَّةِ، وَيَكُونُ تَلَاقُحُ الأَفْكَارِ وَانْتِقَالُ العَادَاتِ، وَتَنَوُّعُ الثَّقَافَةِ.
وَشهْوَةُ البَطْنِ تُؤَدِّي لِلْشُّكْرِ عَلَى نِعَمِ اللهِ، بَلْ وَالإِبْدَاعِ فِي أَنْوَاعِ الطَّعَامِ وَتَشْكِيلَاتِ الشَّرَابِ، فَتَجِدُ فِي اسْمِ اللهِ حِينَ الذَّبْحِ تَعْظِيمًا لِجَلَالِهِ، وَتَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِرَاكٍ عَالَمِيٍّ لِتَأْتِيَ بِمَا يُشْبِعُ الشَّهْوَةَ، فَالكُلُّ يَعْمَلُ مِنْ زَارِعٍ وَصَانِعٍ وَبَائِعٍ وَنَاقِلٍ وَإِدَارِيٍّ وَاقْتِصَادِيٍّ وَتَسْوِيقٍ وَتُكْنُولوجيا وَغَيْرِهِ، فَتَخَيَّلْ كَيْفَ يَكُونُ العَالَمُ سَاكِناً بِدُونِ تِلْكَ الشَّهْوَةِ؟.
وَشَهْوَةُ الجَمَالِ جَمَالٌ بِكُلٍّ مَا فِيهَا مِنْ مَعَانِي -وَأَعْلَاهَا مَرْتَبةً حُسْنُ الخُلُقِ-، وَزِينَةٍ فِي المَلْبَسِ، وَتَذَوُّقٍ سَمْعِيٍّ، وَرَاحَةٍ فِي المَشْهَدِ، وَسَعَةٍ فِي المَسْكَنِ، وَفَنٍّ مِعْمَارِيٍّ، وَمَا يُؤَدِّي كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالٍ.
وَالفُضُولُ شَهْوَةٌ؛ إِذْ فِيهَا الاسْتِكْشَافُ وَالبَحْثُ وَتَنَامِي المَعْرِفَةِ، وَدِرَاسَةٌ فِي الوُجُوهِ وَلُغَةِ الجَسَدِ وَغَيْرِهَا، وَالظُّهُورُ شَهْوَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ هَدَفًا كَانَ الرِّيَاءُ، غَيْرَ أَنَّهَا حَمَاسَةٌ لِلْعَمَلِ يَتَرَاءَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْها التَّأْثِيرُ بِصِنَاعَةِ المَشَاهِيرِ، وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ شَهْوَةٌ لِلْبَعْضِ، فَفِيهَا التَّغْيِيرُ كَانَ إِيجَابًا بِعِمَارَةِ الأَرْضِ وَصَلَاحِ النَّاسِ وَخِدْمَتِهِمْ، أَوْ سَلْباً بِالإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وقطع الأرحام وإِهْلَاكِ الحَرْثِ وَالنَّسْلِ.
إِنَّ هُنَاكَ شَيْئاً إِيْجَابِيًّا وَرَاءَ كُلِّ شَهْوَةٍ، حَتَّى رُغْمَ مَا نَرَاهُ مِنَ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، فَالأَوْبَةُ إِلَى اللهِ، وَالحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُها بِدُونِ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ إِذَا وَعَيْنا حَقِيقَتَها، وَمَا كَانَتْ سُنَنُ اللهِ الكَوْنِيَّةُ أَنْ تَتَحَقَّقَ بِدُونِها، وَسُنَّةُ التَّدَافُعِ خَيْرُ مِثَالٍ لِمُجَابَهَةِ الإِفْسَادِ، وَاتِّخَاذِ الشُّهَدَاءِ، وَالارْتِقَاءِ فِي الجِنَانِ، وَتَحْقِيقِ كَلِمَةِ اللهِ، قَال تَعَالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة:13]، بِمَا أَفْسَدُوا وَارْتَكَبُوا الجَرَائِمَ.
إِنَّ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ تُؤَدِّي إِلَى تَنَوُّعِ الأَعْمَالِ، وَالبَحْثِ وَعِمَارَةِ الأَرْضِ، فَالحَمْدُ للهِ عَلى نِعْمَةِ الشَّهَوَاتِ، وَأَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَعْمِلَنا لِعِمَارَةِ الأَرْضِ وَالارْتِقَاءِ فِي الجِنَانِ، وأن يَحْمِيَنا مِنْ تَأْثِيرَاتِها السَّلْبِيَّةِ.