
إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالى بِالمُؤْمِنِينَ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الأَحْكَامِ مَا يُصْلِحُ أَحْوَالَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُ الفَرَائِضِ القَائِمُ عَلَى تَوْزِيعِ تَرِكَةِ المُتَوَفَّى لِكُلِّ مُسْتَحِقٍّ حَسْبَ مَوْقِعِهِ مِنَ المُتَوَفَّى المُوَرِّثِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ تَعَالى بِتَقْسِيمِ التَّرِكَةِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ، دُونَ تَرْكِ المَجَالِ لِلْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَتْ أَحْكَامُ المِيرَاثِ دَقِيقَةً، حَكِيمَةً، عَادِلَةً، يَسْتَحِيلُ عَلَى البَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ المُسْلِمِينَ قَدْ أَغْشَتِ الدُّنْيَا بَصَائِرَهُمْ بِغُلْفِ الشَّهَوَاتِ، فَلَمْ يَرْعَوُوا بِهَذِهِ الأَحْكَامِ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَمَنَعُوا بَعْضَ الوَرَثَةِ مِنْ نَصِيبِهِمْ أَوْ أَنْقَصُوهُ، فَحَلَّ فَسَادُ ذَاتِ البَيْنِ، وَقَطْعُ أَوَاصِرِ القَرَابَةِ وَالرَّحِمِ، وَإِذْكَاءُ نَارِ العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ مَحِلَّ الوِفَاقِ وَالوِئَامِ وَالبِرِّ وَالسَّلَامِ الذِينَ هُمُ الأَصْلُ فِي عَلَاقَةِ النَّاسِ بِبَعْضِهِمْ وَلَا سِيَّمَا الأَقَارِبُ.
إِنَّ مَنْعَ المِيرَاثِ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، إِذْ كَانَ العَرَبُ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ البَعْضَ كَالنِّسَاءِ وَالصِبْيَانِ، وَيَجْعَلُونَ المِيرَاثَ لِلْرِّجَالِ الأَقْوِيَاءِ أَهْلِ الحَرْبِ وَالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالى أَنْ يُشَرِّعَ لِعِبَادِهِ شَرْعًا عَادِلًا حَكِيمًا، يَسْتَوِي فِيهِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، وَأَقْوِيَاؤُهُمْ وَضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ تَعَالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النِّسَاء:7].
وَفِي السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ أَخَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِإِعْطَاءِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ نَصِيبَهُمَا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِمَا، وَكَانَ أَخَاهُ قَدْ مَنَعَهُمَا، فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ ثُلُثَيْ مَالِهِ، وَأَعْطِ امْرَأَتَهُ الثُّمُنَ، وَخُذْ أَنْتَ مَا بَقِيَ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ].
وَجَاءَ فِي العِنَايَةِ بَالْوَرَثَةِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِي عَامَ حِجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لَا»، فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: «لا»، ثُمَّ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ -أَوْ كَثِيرٌ-، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ].
وَجَاءَ فِي المُسَاوَاةِ بَيْنَ الأَوْلَادِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نُحْلًا، ثُمَّ أَتَى بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُشْهِدَهُ، فَقَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا؟» قَالَ: لا، قَالَ: «أَلَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمُ البِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا؟» قال: بَلَى، قَالَ: «فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ»، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ مُحَمَّدًا، فَقَالَ: إِنَّمَا تَحَدَّثْنَا أَنَّهُ قَالَ: «قَارِبُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَمِنْ صُوَرِ مَنْعِ المِيرَاثِ:
1. مَنْعُ الأَخَوَاتِ مِنَ المِيرَاثِ، عَبْرَ صُوَرٍ، مِنْهَا: تَخْصِيصُ شُقَّةٍ لَهُنَّ فِي مَحِلِّ التَّرِكَةِ بِدَعْوَى اللُّجُوءِ إِلَيْهَا عِنْدَ الحَاجَةِ، وَالتَّسْوِيفُ فِي إِعْطَائِهِنَّ حُقُوقَهُنَّ بِحُجَّةِ أَلَّا يَتَشَتَّتَ الإِخْوَةُ بَعْدَ تَوْزِيعِ التَّرِكَةِ، وَهُنَّ كَارِهَاتٌ.
2. المَرْأَةُ إِذَا كَانَ عِنْدَها بِنْتٌ أَوْ أَكْثَرُ مُتَزَوِّجَاتٌ فَإِنَّ أَقَارِبَ الزَّوْجِ يَسْتَحِقُّونَ جُزْءًا مِنَ المِيرَاثِ بِالعَصَبَةِ، فَإِنَّهَا تُشَنِّعُ عَلَيْهِمْ وَتَقُولُ إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا أَمْوَالَ اليَتَامَى، وَتُرِيدُ أَنْ تَسْتَحْوِذَ هِيَ وَبَنَاتُهَا عَلَى جَمِيعِ التَّرِكَةِ.
3. الرَّجُلُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ بِنْتٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَهُ إِخْوَةٌ أَوْ أَقَارِبُ "أَوْلَادُ عُمُومَةٍ" وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَرِثُونَ مَعَ بَنَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَلْجَأُ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَبِيعَ لِبَنَاتِهِ بَيْعًا وَشِرَاءً مُعْرِضًا بِذَلِكَ عَنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالى.
4. بَيْعُ الرَّجُلِ لِأَحَدِ أَوْلَادِهِ بِمَبْلَغٍ لَا يُكَافِئُ المِثْلَ، تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى إِخْوَتِهِ.
5. تَوْزِيعُ الرَّجُلِ تَرِكَتَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَهُوَ حَيٌّ، وَقَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ المِيرَاثِ (تَحَقُّقَ مَوْتِ المُوَرِّثِ)؛ إِذْ إِنَّهُ رُبَّمَا يَمُوتُ أَحَدُ الوَرَثَةِ فَيُغَيَّرُ تَقْسِيمُ المِيرَاثِ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، أَوْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَيُنْجِبُ مِنْهَا فَيَكُونُ أَوْلَادُهُ الكِبَارُ قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَى الثَّرْوَةِ كُلِّهَا وَجَارَ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ.
6. رَجُلٌ يَمْنَعُ وَلَدًا مِنْ أَوْلَادِهِ لِأَنَّهُ عَاقٌّ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهُوَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ، فَمَنْ عَصَى اللهَ فِيكَ فَأَطِعِ اللهَ تَعَالى فِيهِ، فَمَعْصِيَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَطَاعَتُكَ لَكَ.