يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التَّوْبَة:40].
هَا نَحْنُ اليَوْمَ نُوَدِّعُ عَامَاً هِجْرِيَّاً، وَنَسْتَقْبِلُ عَامَاً هِجْرِيَّاً جَدِيدَاً، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ المُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِها أَنْ يَحْتَفِلُوا مَعَ بِدَايَةِ كُلِّ عامٍ هِجْرِيٍّ جَدِيدٍ بِذِكْرَى الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، مُذَكِّرِينَ المُسْلِمِينَ بِمَا حَوَتْهُ هَذِهِ الحادِثَةُ العَظِيمَةُ مِنْ أَحْدَاثٍ عِظَامٍ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ دُرُوسٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ لا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْها فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
إِنَّ الهِجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ -هَذَا الحَدَثَ التَّارِيخِيَّ العَظِيمَ- تُمَثِّلُ نَقْلَةً نَوْعِيَّةً فِي تَارِيخِ الإِسْلامِ، فَهِيَ نَقْلَةٌ مِنْ مَرْحَلَةِ الدَّعْوَةِ إِلى مَرْحَلَةِ الدَّعْوَةِ وَالدَّوْلَةِ، وَمِنْ مَرْحَلَةِ الضَّعْفِ إِلى مَرْحَلَةِ القُوَّةِ، وَمِنْ مَرْحَلَةِ الاسْتِضْعَافِ لِلْجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ الأُولَى وَالاسْتِقْوَاءِ عَلى الدُّعَاةِ وَتَعْذِيبِهِم وَاضْطِهَادِهِم إِلى مَرْحَلَةِ المُوَاجَهَةِ مَعَ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ جَمِيعَاً مِنْ يَهُودٍ وَمُشْرِكِينَ وَمُنَافِقِينَ كُلٌّ حَسَبَ طَبِيعَةِ الحَدَثِ وَالمُوَاجَهَةِ.
يَقُولُ عَلَّامَةُ التَّارِيخِ د. عِمَادُ الدِّينِ خَلِيلٌ فِي كِتابِهِ (دِرَاسَةٌ فِي السِّيْرَةِ): "إِنَّ الإِسْلامَ جَاءَ لِيُعَبِّرَ عَنْ وُجُودِهِ فِي عَالَمِنا مِنْ خِلالِ دَوَائِرَ ثَلاثٍ تَتَدَاخَلُ فِي بَعْضِها البَعْضِ، ثُمَّ تَتَّجِهُ صَوْبَ الخَارِجِ لِتَبْلُغَ آمَاداً أَوْسَعَ وَأَرْحَبَ: دَائِرَةِ الإِنْسانِ، فَالدَّوْلَةِ، فَالحَضَارَةِ".
لَقَدْ اسْتَطَاعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَكَّةَ طِيلَةَ ثَلاثَةَ عَشَرَ عَاماً مِنْ عُمُرِ الدَّعْوَةِ أَنْ يَفْرَغَ مِنَ الدَّائِرَةِ الأُولَى، أَلَا وَهِيَ دَائِرَةُ الإِنْسَانِ، الإِنْسَانِ العَقَائِدِيِّ وَالرَّبَّانِيِّ، الذِي يَعِيشُ للهِ وَيَتَحَرَّكُ مِنْ أَجْلِ اللهِ وفِي سَبِيلِ دِينِ اللهِ، الإِنْسَانِ الذِي لا يَتَنَازَلُ عَنْ دِينِهِ مِنْ أَجْلِ مَتَاعٍ دُنْيَوِيٍّ زَائِلٍ، يَثْبُتُ عَلى مَبَادِئِهِ، وَلَدَيْهِ الاسْتِعْدَادُ لِلْتَّضْحِيَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ، بِنَفْسِهِ وَرُوحِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ وَوَطَنِهِ وَعَشِيرَتِهِ، مِنْ أَجْلِ دِينِهِ وَمَبَادِئِهِ.
إِنَّ صِنَاعَةَ الإِنْسَانِ أَهَمُّ بِكَثِيرٍ مِنْ إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ؛ لِأَنَّ الإِنْسَانَ هُوَ الذِي يُقِيمُ الدَّوْلَةَ وَيَصْنَعُ الحَضَارَةَ، ولِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ المَهَمَّةُ أَهَمَّ مَرْحَلّةٍ فِي تَارِيخِ الدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَاسْتَحَقَّتْ أَنْ تَسْتَغْرِقَ هَذِهِ المُدَّةَ الطَّوِيلَةَ مِنْ عُمُرِ الدَّعْوَةِ، يَقُولُ سَيِّدُ قُطْب فِي كِتَابِهِ (مَعَالِمُ عَلى الطَّرِيقِ): "وَاسْتَطَاعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُنْشِئَ فِي هَذِهِ المُدَّةِ جِيْلاً قُرْآنِيّاً فَرِيدَاً، اسْتَطَاعَ هَذَا الجِيلُ -بِعَوْنِ اللهِ وَقُوَّتِهِ- أَنْ يُقِيمَ فِيمَا بَعْدُ الدَّوْلَةَ فِي المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وَأَنْ يُحَافِظَ عَلى هَذِهِ الدَّوْلَةِ وَيَحْمِيَهَا مِنَ المُنَاوِئِينَ لَها".
لَقَدْ قَامَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ الإِسْلامِيَّةُ الأُولَى وَسْطَ بَحْرٍ مُتَلاطِمٍ مِنَ أَمْوَاجِ الأَعْدَاءِ الذِينَ يُحِيطُونَ بِها مِنْ كُلِّ صَوْبٍ وَاتِّجَاهٍ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهَا الدَّوَائِرَ وَيُفَكِّرُونَ فِي طَرِيقَةٍ لِلانْقِضَاضِ عَلَيْهَا وَالإِطَاحَةِ بِهَا، اليَهُودُ وَالمُنَافِقُونَ مِنَ الدَّاخِلِ وَالمُشْرِكُونَ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ وَكُفَّارُ مَكَّةَ مِنَ الخَارِجِ، وَرُغْمَ كُلِّ هَذَا اسْتَطَاعَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ أَنْ تَخُوضَ مَعَارِكَ عِدَّةً فِي الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، وَتَخْرُجَ مِنْ كُلِّ مَعْرَكَةٍ وَمُوَاجَهَةٍ مَعَ أَعْدَائِها أَقْوَى شَكِيمَةً وَأَصْلَبَ عُوداً، وَتُصْبِحَ رَقَمَاً صَعْبَاً وَقُوَّةً مُهَابَةَ الجَانِبِ مِنَ الجَمِيعِ، وَتَفْرِضَ سَيْطَرَتَها عَلى الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ كُلِّهَا، وَتَخُوضَ مَعَارِكَ طَاحِنَةً مَعَ الفُرْسِ وَالرُّومِ وَتَنْتَصِرَ.
لَقَدْ أَصْبَحَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ القُوَّةَ الوَحِيدَةَ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ، لِتَنْتَقِلَ بَعْدَ هَذَا إِلَى مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ، إِلى مَرْحَلَةِ الخِلافَةِ مُتَرَامِيَةِ الأَطْرَافِ وَتَنْتَشِرَ الفُتُوحَاتُ الإِسْلامِيَّةُ فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ، وَالشَّمَالِ وَالجَنُوبِ، وَيَتَمَكَّنَ المُسْلِمُونَ بِفَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَوَّلاً ثُمَّ بِجِدِّهِم وَاجْتِهَادِهِم وَانْكِبَابِهِم عَلى العِلْمِ وَمَعَارِفِ الحَضَارَاتِ السَّابِقَةِ -الفَارِسِيَّةِ وَالرُّومَانِيَّةِ وَاليُونَانِيَّةِ وَالهِنْدِيَّةِ وَغَيْرِهَا- أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلى الدَّائِرَةِ الثَّالِثَةِ، دَائِرَةِ الحَضَارَةِ، لِيَصْنَعُوا لِهَذِهِ الأُمَّةِ حَضَارَةً عَظِيمَةً وَعَرِيقَةً لا زِلْنَا نَفْخَرُ بِها إِلى يَوْمِنا هَذَا، وَلِتَتَبَوَّأَ الأُمَّةُ الإِسْلامِيَّةُ مَكَانَ الصَّدَارَةِ بَيْنَ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَتَحْتَلَّ مَكَانَ الأُسْتَاذِيَّةِ لِكَافَّةِ شُعُوبِ العَالَمِ آنَذَاكَ، وَلَقَدْ وَقَفَ كِبَارُ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَالحَضَارَةِ، مِنْ أَمْثَالِ البروفيسور (جُورج سارْتِن) مَوْقِفَ إِعْجَابٍ وَإِجْلالٍ لِهَذِهِ الحَضَارَةِ العَظِيمَةِ، حَيْثُ يَقُولُ فِي مَوْسُوعَتِهِ الشَّهِيرَةِ (مُقَدِّمَةٌ فِي تَارِيخِ العِلْمِ): "إنَّ إِبْدَاعَ حَضَارَةٍ مَوْسُوعِيَّةٍ كَالحَضَارَةِ الإِسْلامِيَّةِ فِي أَقَلَّ مِنْ قَرْنَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ أَمْرٌ يُمْكِنُ وَصْفُهُ وَلَكِنْ لا سَبِيلَ لِتَفْسِيرِهِ تَفْسِيرَاً كَامِلاً".
وَهَكَذَا اسْتَطَاعَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُكْمِلُوا المِشْوَارَ بَعْدَ حَبِيبِهِم مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنْ يَصِلُوا إِلى الدَّائِرَةِ الثَّالِثَةِ، دَائِرَةِ الحَضَارَةِ، فَكَانَتِ الهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ مُنْطَلَقَاً لِلْدَّوْلَةِ وَالحَضَارَةِ وَبَوَّابَةً لَهُما.